• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : العقائد والتاريخ .
              • القسم الفرعي : شبهات وردود .
                    • الموضوع : دحض الشبهات الواهية على كفر سيدنا أبي طالب عليه السلام .

دحض الشبهات الواهية على كفر سيدنا أبي طالب عليه السلام

 

دحض الشبهات الواهية على كفر سيدنا أبي طالب (عليه السلام)

من كتاب مؤتمر علماء بغداد لآية الله الشيخ محمّد جميل حمّود:2/354 ـ 376
 

الشبهات الواهية:
قد استدل القائلون بكفر أبي طالب  وحاشاه أن يكون كذلك  بشبهات واهية، نذكر أهمها، وهي:
الشبهة الأولى:
ما رواه هؤلاء عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وقد ذكر عنده عمه، فقال: "لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه".
وفي لفظ آخر من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن عبدفاللَّه‏فبن الحارث قال: حدّثنا العباس‏فبن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبيّ: ما أغنيت عن عمّك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "هو" في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل.
يورد عليه:
أ  حديث الضحضاح متهافت، فرواية تقول إنه في ضحضاح من نار بالفعل، وأخرى تنص على أنه سيكون في ضحضاح يوم القيامة، وهذا التعارض والتهافت يوجب سقوط روايات الضحضاح عن الاعتبار.
هذا مضافاً إلى المناقشة في الأسانيد لمكان سفيان الثوري والمغيرةفبن شعبة وأمثالهما من روايات أهل الضلال وموضوعات بني أمية.
ب  أفاد حديث الضحضاح أن الشفاعة قد تنفع أبا طالب يوم المعاد، مع أن المشرك لا تناله الشفاعة، ولو سلّمنا أنه مات مشركاً، فكيف يرجو النبيّ أن يتشفع لعمّه يوم القيامة والشفاعة رحمة وقد نهاه عزّ وجلّ أن يترحم على مشرك؟.
قد يقال:
إن النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) طلب من أبي طالب‏ (عليه السَّلام) النطق بالشهادتين حتى تناله الشفاعة يوم الآخر، كما هو مفاد بعض الأخبار: "من أن النبيّ طلب منه النطق بهما ليستحل له بها الشفاعة" فلم يعطه إياها.

قلنا: إن الشفاعة لا تحل لمشرك، فلماذا حلّت لهذا المشرك بالذات، ولو فرضنا أن أبا طالب مات على غير الإسلام، فلا مجال لقول النبيّ "لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة" وذلك لأن الشرك ينفي حكم الشفاعة، فهو من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، فإذا ارتفع الموضوع ارتفع الحكم، وهنا هكذا، فحيث إنّ الشفاعة حكم يدور مدار وجود المسلم، فالحكم معلّق بموضوعه وهو هنا المسلم، فلا شفاعة حينئذٍ لكافر.
ولو مات أبو طالب (وحاشاه) على غير الإسلام، ثبت بذلك أنه مات مؤمناً، فلا مجال لدعوى أنه مات كافراً، فيخرج النزاع عن مورد البحث.
ج  إن عدم نطق أبي طالب بالشهادتين، ليس دليلاً على كفره، لأن التشهد طريق لإظهار الإيمان والإسلام، وقد يكون أبو طالب مأموراً بذلك لحِكَمٍ منها دفاعه عن رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، لذا قال: "ما تجرأ عليّ المشركون إلاّ بعد موت أبي طالب". هذا مضافاً إلى أن التشهد يكون مسبوقاً دائماً بحالة عدم الإيمان لا سيّما في بداية البعثة، أما بعدها أو في وسطها، فالتشهد حينئذٍ يعتبر تأكيداً لحالة الإسلام واعترافاً بفضله أمام الناس.
د  من كان قادراً على إخراج أبي طالب من الدرك الأسفل إلى الضحضاح، هو قادرٌ على إخراجه أيضاً من الضحضاح، وإخراجه من الدرك الأسفل يعتبر شفاعة، فلما لا يكمل لعمّه هذه الشفاعة فيخرجه من أصل الجحيم؟
الشهبة الثانية:
ما رواه البخاري ومسلم عن ابن المسيب عن أبيه قال: لمّا حضرت أبا طالب الوفاة، أتى إليه النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وكان عنده أبو جهل وعبدفاللَّه‏فبن أبي أمية، فقال له النبيّ: يا عم قل لا إله إلا اللَّه أحاج لك بها عند اللَّه، فالتفت أبو جهل وعبدفاللَّه بن أبي أمية إلى أبي طالب وقالوا: أتريد أن تصبو عن دين أبيك عبد المطلب؟ وكرّر النبيّ قوله، إلاّ أن أبا جهل وعبدفاللَّه منعاه من ذلك، وكان آخر ما قاله أبو طالب: على دين عبد المطلب، وامتنع عن قول: لا إله إلا اللَّه، فقال النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): واللَّه لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك، فأنزل اللَّه تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
وأنزل اللَّه في أبي طالب: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ.
والجواب:
1  إن المسيب الناقل للرواية متهم ببغض الإمام عليّ‏ (عليه السَّلام) كما نصّ عليه البعض، فالرواية مضافاً إلى ذلك من المراسيل، ولا حجيّة فيها، فهي من دسائس بني أمية.
2  إن الآية 113 من سورة التوبة نزلت على رسول اللَّه في السنة التاسعة للهجرة على ما هو المشهور بين المحدثين والمفسرين، بل إن بعض المفسرين يرى أنها نزلت آخر ما نزلت من القرآن، مع أن مشهور المؤرخين ينص على أن وفاة أبي طالب كانت في السنة العاشرة للبعثة.
قال ابن إسحاق:
"إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول اللَّه المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها، وبهُلك عمّه أبي طالب، وكان له عضداً وحرزاً في أمره، ومنعةً وناصراً على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول اللَّه من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه تراباً".
3  إن اللَّه تعالى نهى المسلمين في آيات عدة نزلت قبل سورة التوبة وقبل موت أبي طالب كما في قوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
ونحن نعلم أن الاستغفار من أظهر مصاديق المودة والمحبّة للكافر، وقد نهى اللَّه عن مودتهم في الآيات المتقدّمة وغيرها، فكيف يمكن  والحال هذه  أن يرحل أبو طالب من الدنيا، ويقسم النبيّ بأنه سيستغفر له حتى ينهاه اللَّه تعالى عن ذلك؟
إن إلقاء نظرة على أسباب نزول الآية 113 من سورة التوبة، يدفع ما ظنه العامة بشأن طلب الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الاستغفار للمشركين، فقد ورد في أسباب نزولها: أن جماعة من المسلمين كانوا يقولون للرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية؟ فنزلت الآية ونظيرها تنذرهم بأن لا حق لأحدٍ أن يستغفر للمشركين حتى لو كان المستغفر هو رسول اللَّه.
الشهبة الثالثة:
استدل المنكرون لإيمان أبي طالب‏ (عليه السَّلام) بقوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
بدعوى أن هناك فريقاً من المكّيين المدافعين عن رسول اللَّه، ولكنّهم في الوقت نفسه يبتعدون عنه.
وبعبارة أخرى: إن الآية المباركة  بنظر هؤلاء  نزلت بأبي طالب الذي كان ينهى الناس عن أذى الرسول، وينأى عن أن يدخل في الإسلام.
يورد عليه:
1  إن هذه الآية ليست صريحة في المدّعى، بمعنى أنها ليست نصاً قطعياً للدلالة على دعواهم هذه، بل هي مجملة من حيث التطبيق على سيّد البطحاء أبي طالب، فلا بدّ من الرجوع  في حال وجود إجمال في آية ما  إلى النصوص التي توضّح المراد، وقد دلت  أي النصوص الصحيحة  على عكس ما يدّعون، فقد ذكر الطبرسي عن ابن عبّاس ومحمّد ابن الحنفية والحسن والسدي وقتادة ومجاهد والجبائي: من أن المراد بالآية هم الكفار كانوا ينهون الناس عن إتباع النبيّ ويتباعدون عنه فراراً منه. بل إن الروايات التي فسّرت الآية بأبي طالب مروية بواسطة عطاء ومقاتل، وهذا لا يصح لأن هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها وما تأخر عنها معطوف عليها، وكلها في ذم الكفار المعاندين للنبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقوله تعالى في الآية المتقدمة على الآية موضع البحث وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، وكذا الآية المتأخرة عن الآية 26 وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لا ينطبق شي‏ء من أوصافها على سيّدنا أبي طالب‏ (عليه السَّلام) الذي لم يُعهد أو يُعرف منه إلاّ التشجيع على إتّباع النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والنصرة له باليد واللسان، فكان كثير الطلب من غيره ممن تربطه به علاقة حميمة أو نسبية أن يدخل في هذا الدين، وأن يتمسك به ويصبر عليه، والأخبار بهذا الصدد كثيرة يشهد له بها العامة والخاصة.
2  إن قوله تعالى في سورة القصص: إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللَّه يهدي من يشاء نزلت في أبي طالب بعد وفاته فيما زعموه عن الصحيحين، وهذا لا يتم مع قوله تعالى: ينهون عنه وينأون النازلة في أناس أحياء  أي في أبي طالب  فإن سورة الأنعام التي فيها الآية المبحوث عنها نزلت جملة واحدة بعد سورة القصص بخمس سور )كما في الاتقان ج1ر17) فكيف يمكن تطبيقها على أبي طالب وهو رهن أطباق الثرى، وقد توفي قبل نزول الآية ببرهة طويلة.
وبعبارة أخرى:
إن الآية 26 من سورة الأنعام، والآية 56 من القصص نزلتا  بحسب زعم بعض العامة  بعد وفاة أبي طالب‏ (عليه السَّلام)، مع أن الآية 56ر القصص نزلت قبل الأنعام  التي نزلت جملة واحدة  بخمس سور، وهذا دليل على أن سورة الأنعام قد نزلت بعد وفاة أبي طالب بمدة، فكيف يدّعى إذن أنها نزلت حين وفاته‏ (عليه السَّلام)؟
ومما يؤكد أن سورة الأنعام قد نزلت دفعة واحدة ما رواه ثلة من المفسرين من أن أسماء بنت يزيد كانت ممسكة بزمام ناقة النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وذلك بعد بيعة العقبة، التي كانت بعد وفاة أبي طالب‏ (عليه السَّلام) بمدة طويلة.
3  كيف ينهى أبو طالب‏ (عليه السَّلام) عن رسول اللَّه وقد كان معتقداً به مذ كان ابن أخيه صغيراً، ففي أخبارنا أن أبا طالب كان من المنتظرين مجي‏ء النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وفي أخبار العامة، كان يعلم بنبوة النبيّ بواسطة الراهب بحيرا ونصيحته لأبي طالب بشأن النبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) هذا مضافاً إلى ما أورده الطرفان  الخاصة والعامة  من أن أبا طالب‏ (عليه السَّلام) كان يستسقي برسول اللَّه عندما تجدب سماء مكة بمطرها.
4  إنّ ما استدل به المنكرون لإيمانه بالآية المتقدّمة، مخالف لسيرة سيّدنا أبي طالب‏ (عليه السَّلام) المدافع عن رسالة الإسلام، ويكفي ما فعله مؤمن قريش سيد العرب والعجم آنذاك  من النصرة والتأييد لرسول اللَّه عندما حاصر المشركون ابن أخيه حصاراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وظل في تلك الفترة فيها المحامي والناصر والمعين، ترك فيها كلّ أعماله وسلك ببني هاشم إلى وادٍ بين جبال مكة يُعرف بشعب أبي طالب حيث بنى الأبراج الخاصة في الشعب للوقوف بوجه أيّ هجوم قد تشنه قريش عليهم، وكان في كل ليلة يوقظ رسول اللَّه من نومه ويأخذه إلى مضجع آخر بعده، ويجعل ابنه الحبيب إليه أمير المؤمنين عليّ روحي فداه في مكانه، ألا يدل هذا على أنه كان مؤمناً بالنبيّ ورسالته؟!
لم يكن لأبي طالب ذنب سوى أنه أبو عليّ‏فبن أبي طالب إمام التقين وقائد الغر المحجّلين وقسيم الجنّة والنار، وباب حطة الذي من دخله فهو مؤمن ومن لم يدخله فهو كافر.
وصاية أبي طالب عليه السلام:
كان أبو طالب‏ (عليه السَّلام) وصيّاً من أوصياء الأنبياء، ومعنى كونه وصياً أي أنه كان منبئاً من قبل اللَّه عزّ وجلّ حسبما استظهرناه من الأخبار، وكذا كان أبوه عبد المطلب حيث كان منبئاً في نفسه من اللَّه تعالى، لما روي من أن عبد المطلب كان حجة، وأبو طالب كان وصيّه‏ (عليه السَّلام).
ومفهوم الحجة وإن كان يشمل كل ما يُحْتَج به على الآخرين سواء كان معصوماً أم لا، إلاّ أنه هنا يُصْرَف إلى خصوص المعصوم بقرينة أن هناك وصيّاً من بعده، هذا مضافاً إلى القرائن الخارجية الدالة على نبوتهما التسديدية، لأن النبوة من "النبأ" أي الخبر، فالمنبى‏ء أي المخبر، لذا قال اللَّه تعالى للملائكة: فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي اخبروني إن كنتم صادقين بدعواكم أنكم أحقّ بالأمر من آدم. ثم قال اللَّه لآدم: قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ.. فالإنباء هو الإخبار، ونبوة أبي طالب كنبوة أبيه من قبل هي النبوة التسديدية التوفيقية وهكذا أغلب أنبياء بني إسرائيل كانوا مسددين من قبل الباري عزّ وجلّ وأما الموحى إليهم بالتشريع فكانوا قليلين كالأنبياء أولي العزم وزد عليهم قليلاً.
وبالجملة فإن نبوة عبد المطلب وابنه عبد مناف مما لا يجب أنْ يرتاب بها ذو مسكة، ولهما بأمّ موسى أسوة وهي التي أوحى اللَّه إليها وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
فقد عيّن اللَّه لأمّ موسى الوظيفة العملية، وهكذا بالنسبة إلى عبد المطلب وعبد مناف فقد أراد اللَّه بحكمته أن يبرز فضلهما على سائر الناس في الفترة ما بين عيسى ونبيّنا محمّد عليه وآله السلام.
كما أن لهما أسوة بمريم‏ (عليها السَّلام)، وبالخضر (عليه السَّلام) الذي أفاض اللَّه تعالى عليه العلم اللدني مع أنه ليس بنبيّ بل وليّ صالح على قول المشهور حسبما جاءت به الأخبار، وعلى فرض كونه نبيّاً  حسبما استفاده بعض لنون العظمة في قوله تعالى آتيناه رحمة من عندنا  فلا يراد منها التشريعية في مقابل شريعة موسى‏ (عليه السَّلام)، بل هي نبوة تسديدية، وعلى فرض سلّمنا بكونها تشريعية فلا تناهض تشريع موسى‏ (عليه السَّلام) وذلك لأن النبيّ موسى مكلّف بالظاهر، والخضر (عليه السَّلام) مكلّف بالباطن، وكذا عبد المطلب وأبو طالب‏ (عليه السَّلام) طبق القذة بالقذة.
وهكذا حدّثنا التاريخ عن خالد بن سِنان العبسي فقد ذكر المؤرخون:
]أنه كان في الفترة  أي ما بين النبيين الكريمين عيسى ومحمّد (عليه السَّلام)  قيل: كان نبياً، وكان من معجزاته أن ناراً ظهرت بأرض العرب فافتتنوا بها وكادوا يتمجسون، فأخذ خالد عصاه ودخلها حتى توسطها ففرّقها، وهو يقول: بدّا بدّا كل هدى مؤدّى، لأدخلنّها وهي تلظّى ولأخرجنّ منها وثيابي تندى، ثم أنها طفئت وهو في وسطها.
فلما حضرته الوفاة قال لأهله: إذا دُفنتُ فإنه ستجي‏ء عانة من حمير يقدمها عير أبتر فيضرب قبري بحافره، فإذا رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخبركم بجميع ما هو كائن، فلما مات ودفنوه رأوا ما قال، فأرادوا نبشه، فكره ذلك بعضهم قالوا: نخاف إن نبشناه أن تسبّنا العرب بأنّا نبشنا ميتاً لنا فتركوه.
فقيل إنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال فيه: ذلك نبيّ ضيّعه قومه، وأتت ابنته النبيّ فآمنت به[.
وقد عبَّرت النصوص المتضافرة عن أئمة آل البيت‏ (عليهم السَّلام) بالرؤيا الصالحة بأنها جزء من سبعين جزء من النبوة، ولا يراد منها النبوة التشريعية بل التسديد والإخبارات التكوينية.
فقد ورد عن رسول اللَّه قال: الرؤيا الصالحة يبشّر بها المؤمن وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
وعنه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): الرؤيا الصالحة بشرى من اللَّه وهي جزء من أجزاء النبوة.
وعنه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من النبوة.
وعن الإمام الصادق‏ (عليه السَّلام): أن رأي المؤمن ورؤياه جزء من سبعين جزء من النبوة، ومنهم من يعطى على الثلاث.
وعنه‏ (عليه السَّلام): رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءاً من أجزاء النبوة.
وعن محمد بن كعب وعائشة: أول ما بدء به رسول اللَّه من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح.
فإذا كانت رؤيا المؤمن جزءاً من أجزاء النبوة، فلتكن رؤيا عبد المطلب وأبي طالب من هذا القبيل ولكن بمستوى أرقى مما هو عليه المؤمنون الصالحون، وليس معنى صوابية رؤيا المؤمن أنه صار نبيّاً مشرّعاً بل رؤياه من قبيل التسديد والتوفيق، وهكدا ورد عن عبد المطلب انه نبى‏ء في المنام أن احفر طيبة، قال: قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب  أي من أتاه في المنام  فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت، فجاءني فقال: احفر بَرّة، قال: قلت: وما بَرّة؟ ثم جاءه مرة ثالثة، فقال له: احفر المضنونة، قلت: وما المضنونة؟ ثم جاءه مرة رابعة، فقال له: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لا تندم، قلت: وما زمزم؟ قال: تراث من أبيك الأعظم لا تنزف أبداً ولا تُذم، تسقي الحجيج الأعظم،.. فلما بيّن له شأنها ودلّ على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره، فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها، وقد رأى الغراب ينقر هناك، فلمّا بدا له الطويّ كبّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك، قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خُصصتُ به دونكم، قالوا: فإنّا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم، قالوا: كاهنة بني سعدفبن هُذيم وكانت بمشارف الشام، فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، فلما أشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ، ركب عبد المطلب راجعاً إلى دياره، فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عينٌ عذبة من ماء، فكبّر وكبّر أصحابه وشربوا وملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلمّوا إلى الماء فقد سقانا اللَّه، ثم قالوا لعبد المطلب: واللَّه لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً.
ويروى أن عبد المطّلب أوّل من تحنث بحراء، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر.
ويروى له كرامات تدل على علو مقامه، منها دعاؤه على جيش أبرهة لما جاء إلى مكة ليهدم الكعبة، فقام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقال:
 

يا ربّ لا أرجو لهم سواكا             يا ربّ فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت مَنْ عاداكا              امنعهم أن يخربوا فناكا
 

وقال أيضاً:
 

لا هُمّ إنّ العبدَ يمنع               رحله فامنَعْ حِلالِكْ
لا يغلبنّ صليبُهم                 ومحالُهم غدراً محالَكْ
 

ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة وانطلق ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرّزوا فيها ينتظرون ما يفعل أبرهة بمكة إذا دخل.
ولمّا هجم جيش أبرهة، ألقى الفيل نفسه إلى الأرض، وكلما حاولوا إلى أن ينهضوه أبى، ثم بعد ذلك أرسل اللَّه عليهم طيراً أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طير منها ثلاثة أحجار، فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك".
ورد عن مولانا الإمام أبي عبد اللَّه‏ (عليه السَّلام) قال: يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمةً وحده عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك.
وعنه أيضاً قال‏ (عليه السَّلام): إن عبد المطلب أول من قال: بالبداء يبعث يوم القيامة أمّة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء.
بيان:
قوله‏ (عليه السَّلام): أمّة وحده، إشارة إلى أنه يعادل أمة بكاملها يوم القيامة عندما يُحشر الناس فوجاً فوجاً هو يحشر وحده ليس لأنه كان في زمانه متفرداً بدين الحق من بين قومه  حسبما ادّعى العلاّمة المجلسي عليه الرحمة  بل لأن إيمانه يوازي أمة بكاملها، ويؤيد ما قلنا ما ورد عن مولانا الإمام أبي عبدفاللَّه‏ (عليه السَّلام) بقوله لمن قال له: إن الناس يقولون: إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، قال‏ (عليه السَّلام): كذبوا واللَّه إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان، وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم.
وروي عن ابن مسكان عن مولانا الإمام جعفرفبن محمّد (عليه السَّلام) قال: سألته عن القائم في طريق الغريّ، فقال: نعم إنه لمّا جازوا بسرير أمير المؤمنين عليّ‏ (عليه السَّلام) انحني أسفاً وحزناً على أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام)، وكذلك سرير أبرهة لمّا دخل عليه عبد المطلب انحنى ومال.
ولا يخفى أن انحناء السرير له دلالة مهمة على علو شأنه، وانحناء الجماد له إشارة إلى كونه قبلة إلى اللَّه تعالى، فلولا أنه معصوم لما سجدت الكائنات له، ضرورة أنها لا تنحني لمؤمن عادي مهما بلغ شأنه بالتقى والورع.
وفي خبر آخر عن الكافي عن الحسن بن راشد عن الإمام أبي ابراهيم‏ (عليه السَّلام) قال: "... فأتاه اللَّه بالنوم  أي أنامه  فغشيه وهو في حجر الكعبة، فرأى ذلك الرجل بعينه وهو يقول: يا شيبة الحمد احمد ربك، فإنه سيجعلك لسان الأرض ويتبعك قريش خوفاً ورهبة وطمعاً.. فلما أن كان الليل أتاه في منامه بعدة من رجال وصبيان، فقالوا له: نحن أتباع ولدك، ونحن من سكّان السماء السادسة، السيوف ليست لك، تزوّج في مخزوم تقوي )تقو: نسخة(.. فدفع الأسياف جميعها إلى بني المخزومية: إلى الزبير وإلى أبي طالب وإلى عبدفاللَّه، فصار لأبي طالب من ذلك أربعة أسياف، سيف لأبي طالب، وسيف لعليّ، وسيف لجعفر، وسيف لطالب..".
وورد عن أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) قال:
واللَّه ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قط، قيل: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به.
وروى صاحب المناقب فقال:
لما قصد أبرهة بن الصباح لهدم الكعبة أتاه عبد المطلب ليسترد منه إبله، فقال: تُعلمني في مأة بعير، وتترك دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه؟ فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، وإن للبيت ربّاً سيمنعه منك، فردّ إليه إبله، فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأخذ بحلقة الباب قائلاً:


يا ربّ لا أرجو لهم سواكا           يا رب فامنع منهم حماكا
 

...إلى آخر الأبيات.
 

فانجلى نوره على الكعبة، فقال لقومه: انصرفوا، فواللَّه ما انجلى من جبيني هذا النور إلاّ ظفرت، والآن قد انجلى عنه، وسجد الفيل له، فقال للفيل: يا محمود، فحرّك الفيل رأسه، فقال له: تدري لِمَ جاءوا بك؟
فقال الفيل برأسه: لا، فقال: جاءوا بك لتهدم بيت ربّك، أفتراك فاعل ذلك؟ فقال الفيل برأسه: لا.
ومما يشهد أن عبد المطلب نبيّ ما جاء في الأخبار المتضافرة من أن نور رسول اللَّه والأئمة الأطهار الميامين كان يتنقل من صلب نبيّ إلى صلب نبيّ آخر حتى وصل نور النبيّ إلى صلب عبدفاللَّه، ونور الوحي إلى صلب عبد مناف "أبي طالب".
فعن أبي ذر (رضوان اللَّه تعالى عليه) قال:
سمعت رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: خُلقت أنا وعليّ‏فبن أبي طالب من نور واحد نسبّح اللَّه تعالى عند العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام فلمّا أن خلق اللَّه آدم جعل ذلك النور في صلبه، ولقد سكن الجنّة ونحن في صلبه..".
وعن الطبرسي (قُدِّسَ سرّه) قال في تفسير قوله تعالى: وتقلّبك في الساجدين معناه: تقلّبك في الموحدين من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّاً، عن ابن عبّاس في رواية عطا وعكرمة، وهو المروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبدفاللَّه‏ (عليه السَّلام) قالا: في أصلاب النبيّين، نبيّ بعد نبيّ حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم‏ (عليه السَّلام)".
وقال الطوسي (قُدِّسَ سرّه):
(الذي يراك) يا محمّد (وتقلّبك في الساجدين) أي أنه أخرجك من نبيّ إلى نبيّ حين [حتى:فظ] أخرجك نبيّاً... إلى أن قال: وقال قوم من أصحابنا: إنه أراد تقلّبه من آدم إلى أبيه عبدفاللَّه في ظهور الموحدين، لم يكن فيهم من يسجد لغير اللَّه".
وقال القمي (قُدِّسَ سرّه):
حدّثني محمّد بن الوليد عن محمد بن الفرات عن أبي جعفر (عليه السَّلام): (الذي يراك حين تقوم، وتقلّبك في الساجدين) أي أصلاب النبيين.
بيان:
نستظهر من هذه النصوص أن كلّ آباء النبيّ والولي أنبياء من لدن آدم‏ (عليه السَّلام) إلى والد النبي عبدفاللَّه، ووالد الإمام‏ (عليه السَّلام) لإتحاد نور النبيّ والوصيّ، هذا مضافاً إلى أن تسلسل أنوار رسول اللَّه وعترته في أصلاب النبيين دلالة القدرة الإلهية على الإعجاز حيث شاءت حكمته أن لا يكون صلب غير معصوم محيطاً بنطفة معصوم.
إن قيل: لا ملازمة بين النبيّ والوليّ، فحيث إن نبوة آباء النبيّ ثبتت بقوله: من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك نبيّاً، إلا أن نبوة أبي طالب تحتاج إلى دليل!
قلنا: إن الحكم بنبوته يستند إلى قرائن أُخر منها:
1  ما وراه الصدوق: من أن عبد المطلب كان حجةً، وأبو طالب كان وصيّه.
والوصاية وإن كانت أعم من النبوة، إذ قد يكون الوصي نبيّاً كما في أوصياء الأنبياء وقد يكون غير نبيّ كالعلماء الأتقياء وأمثالهم، لكن لمّا ثبتت نبوة عبد المطلب بما تقدم، ثبتت نبوة أبي طالب للملازمة بين النبوة والوصاية، إذ إن كل الأنبياء كانوا يوصون إلى أنبياء مثلهم، لذا أطلق عليهم تسمية "الوصي" تمييزاً لهم عن غيرهم ممن قد يدّعي النيابة عن الأنبياء في مواريثهم وما جاءوا به من عند اللَّه تعالى.
وعليه، فحيث يوجد مائة وأربع وعشرون ألف نبيّ، يوجد مثلهم مائة وأربع وعشرون ألف وصي، وهؤلاء الأوصياء  في نفس الوقت  أنبياء يوحى إليهم كما كان يوحى لمن أوصى لهم. فهارون وصي موسى وكذا يوشع‏فبن نون، فهل يُتصوّر أنهم ليسوا بأنبياء مع أن الأخبار دلت على أنهم أوصياء وأنبياء معاً، وهنا هكذا، فبما أن عبد المطلب نبي لا بد أن يوصي إلى نبي مثله تماماً.
ومن هنا أيضاً قال العلاّمة محمّد باقر المجلسي (قُدِّسَ سرّه):
[وقد أجمعت الشيعة على إسلامه  أي أبي طالب‏ (عليه السَّلام) وأنه قد آمن بالنبي‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في أوّل الأمر، ولم يعبد صنماً قط، بل كان من أوصياء إبراهيم‏ (عليه السَّلام) واشتهر إسلامه من مذهب الشيعة حتى إنّ المخالفين كلّهم نسبوا ذلك إليهم، وتواترت الأخبار من طرق الخاصة والعامة في ذلك وصنّف كثير من علمائنا ومحدثينا كتباً مفردة في ذلك كما لا يخفى على من تتبع كتب الرجال].
وقال في موضع آخر:
"اتفقت الإمامية )رضوان اللَّه تعالى عليهم( على أن والديّ الرسول، وكلّ أجداده إلى آدم‏ (عليه السَّلام) كانوا مسلمين، بل كانوا من الصدّيقين: إما أنبياء مرسلين، أو أوصياء معصومين، ولعلّ بعضهم لم يظهر الإسلام لتقية أو لمصلحة دينية، وما روي: أن عبد المطلب كان حجةً وأبو طالب كان وصيّه".
وقال في موضع ثالث:
"... قد آمن  أي أبو طالب  وأقرّ، وكيف لا يكون كذلك والحال أن أبا طالب كان من الأوصياء، وكان أميناً على وصايا الأنبياء وحاملاً لها إليه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)..".
ويشهد لما قلنا من أن الوصاية ملازمة للنبوة بحكم الالتحام بين الأنبياء والأوصياء من ناحية الخصائص الروحية والكمالية، أنه ورد عن درست‏فبن أبي منصور أنه سأل أبا الحسن الأول‏ (عليه السَّلام): أكان رسول اللَّه محجوجاً بأبي طالب؟ فقال‏ (عليه السَّلام): لا، ولكن كان مستودعاً للوصايا فدفعها إليه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، قال: قلت: فدفع إليه الوصايا على أنه محجوج به؟ فقال: لو كان محجوجاً به ما دفع إليه الوصية، قال: فقلت: فما كان حال أبي طالب؟
قال: أقرّ بالنبيّ وبما جاء به ودفع إليه الوصايا ومات من يومه.
بيان:
يفهم من الخبر أن أبا طالب‏ (عليه السَّلام) معه مواريث الأنبياء، وقبل موته سلّمها إلى رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، ضرورة أن احتفاظه بمواريث الأنبياء دليل عصمته وطهارته من الدنس، لأن مواريث الأنبياء دائماً بيد الأوصياء لم تتخلف هذه السنّة منذ آدم‏ (عليه السَّلام) إلى غياب مولانا وإمامنا الحجّة ابن الحسن المهدي‏ (عليه السَّلام) وعجّل اللَّه فرجه الشريف. من هنا ظن السائل أن أبا طالب حجّة على رسول اللَّه! فأجابه الإمام‏ (عليه السَّلام) بالنفي، وظنُّ السائل في محله وذلك: لأن القاعدة تقتضي أن يوصي الأعلى رتبة إلى الأدون منه أي يوصي النبيّ إلى وصيه، فلمّا سلّم أبو طالب المواريث والوصايا ظن السائل أن أبا طالب أفضل من رسول اللَّه وأعلى منه درجة، لذا قال له الإمام‏ (عليه السَّلام): دفع الوصايا لا يستلزم كون أبي طالب حجة على رسول اللَّه بل ينافيه بمعنى لو كان أبو طالب حجة على رسول اللَّه (أي أعلى درجة) لما كان على أبي طالب أن يقدم إلى رسول اللَّه ليدفع إليه الوصايا، بل كان على النبيّ أن يقدّم إليه لأخذ الوصايا كما هي سيرة الأوصياء كالكعبة تزار دائماً.
قال العلاّمة المجلسي (قُدِّسَ سرّه):
"هل كان أبو طالب حجّة على رسول اللَّه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إماماً له؟ فأجاب‏ (عليه السَّلام) بنفي ذلك، معلّلاً بأنه كان مستودعاً للوصايا، دفعها إليه لا على أنه أوصى إليه وجعله خليفة له ليكون حجّة عليه، بل كما يوصل المستودع الوديعة إلى صاحبها، فلم يفهم السائل ذلك وأعاد السؤال، وقال: دفع الوصايا مستلزم لكونه حجّة عليه؟ فأجاب‏ (عليه السَّلام) بأنه دفع إليه الوصايا على الوجه المذكور، وهذا لا يستلزم كونه حجّة بل ينافيه، وقوله هل كان الرسول محجوجاً مغلوباً في الحجة بسبب أبي طالب حيث قصّر في هدايته إلى الإيمان ولم يؤمن، فقال‏ (عليه السَّلام): ليس الأمر كذلك، لأنه كان قد آمن وأقرّ، وكيف لا يكون كذلك والحال أن أبا طالب كان من الأوصياء، وكان أميناً على وصايا الأنبياء وحاملاً لها إليه‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، فقال السائل: هذا موجب لزيادة الحجّة عليهما حيث علم نبوّته بذلك ولم يقرّ، فأجاب‏ (عليه السَّلام) بأنه لو لم يكن مقرّاً لم يدفع الوصايا إليه.
2  روى الكليني (قُدِّسَ سرّه) عن عبدفاللَّه بن مسكان، قال: قال أبو عبدفاللَّه‏ (عليه السَّلام): إنّ فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب لتبشّره بمولد النبيّ‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فقال أبو طالب: اصبري سبتاً، أُبشّرك بمثله إلاّ النبوة.
يدل هذا الحديث على تقدّم إيمان أبي طالب، وأنه كان من الأوصياء وأميناً على أسرار الأنبياء.
أقول: إن كلّ وصي نبيّ، وليس كلّ وصي نبيّاً مشرّعاً، فبينهما خصوص وعموم من وجه، فوصاية أبي طالب من مقتضيات نبوته التسديدية لا التشريعية، فمثلاً أئمة أهل البيت‏ (عليهم السَّلام) أوصياء النبيّ محمّد إلاّ أنهم ليسوا أنبياءاً مشرّعين وإن كانت مقتضيات النبوة فيهم.
إن قيل: لا ملازمة بين الوصاية والنبوة فكيف قلتم إن وصايته‏ (عليه السَّلام) دليل نبوته؟
قلنا: إن عدم الملازمة صحيحة في غير موضع المواريث والوصايا، لكنّ الملازمة بينهما في موضع المواريث والوصاية صحيحة وثابتة، إذ لم يُعهد  حسبما جاء في أخبارهم‏ (عليهم السَّلام)  للأنبياء أنهم أوصوا لغير الأوصياء المعصومين الذين هم في الواقع أنبياء أيضاً لكن أدنى درجة ممن تقدّمهم، لذا فإن أئمة أهل البيت‏ (عليهم السَّلام) ظاهرهم الوصاية والخلافة، لكنّ واقعهم نبوة، إلاّ أنه ورد عنهم النهي عن اعتقاد النبوة فيهم، بمعنى أنه لايهبط عليهم جبرائيل بالحلال والحرام بعد وفاة جدهم رسول اللَّه محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، لذا قالوا: نحن محدّثون؛ أي أن اللَّه تعالى يحدّثهم ويُلهمهم ويوحي إليهم بالخيرات، وهذا لا يفرق بشي‏ء عن النبوة سوى أنّ الثانية عبارة عن هبوط الملك بالحلال والحرام، والأولى هي الإخبار عن الحوادث والمجريات.
3 وفي البحار عن الاحتجاج عن مولانا الإمام الصادق‏ (عليه السَّلام) عن آبائه‏ (عليهم السَّلام): "إن أمير المؤمنين‏ (عليه السَّلام) كان ذات يوم جالساً في الرحبة والناس حوله مجتمعون، فقام إليه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، أنت بالمكان الذي أنزلك اللَّه به، وأبوك مُعذَّب في النار؟!!
فقال له أمير المؤمنين عليّ‏ (عليه السَّلام): مه فضّ اللَّه فاك، والذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفّعه اللَّه فيهم، أأبي معذّب في النار وابنه قسيم الجنّة والنار؟!!
والذي بعث محمّداً بالحق نبيّاً إن نور أبي يوم القيامة يطفى‏ء أنوار الخلائق كلّهم إلاّ خمسة أنوار: نور محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ونوري ونور الحسن ونور الحسين ونور تسعة من وُلد الحسين، فإنّ نوره من نورنا الذي خلقه اللَّه تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام.
4  وفي كنز الفوائد، عن ابان بن محمّد، قال: كتبت إلى الإمام عليّ‏فبن موسى‏ (عليه السَّلام) جعلت فداك إني شككت في إيمان أبي طالب؟
قال: فكتب: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى، إنك إن لم تقر بإيمان أبي طالب، كان مصيرك إلى النار".
بيان:
الشك بإيمان مؤمن لا يوجب الدخول إلى النار، إلاّ إذا كان هذا المؤمن معصوماً وله ما للأنبياء (عليهم السَّلام)، فالشك حينئذٍ موجب لدخول النار.
5  وفي البحار أيضاً عن محمّد بن يونس، عن أبيه، عن الإمام أبي عبد اللَّه‏ (عليه السَّلام) أنه قال: يا يونس، ما يقول الناس في إيمان أبي طالب؟
قلت: جعلت فداك، يقولون: هو في ضحضاح من نار يغلي منها أُمّ رأسه.
فقال‏ (عليه السَّلام): كذب أعداء اللَّه، إن أبا طالب من رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً.
6  وعن ليث المرادي قال:
قلت للإمام أبي عبد اللَّه‏ (عليه السَّلام): سيّدي إن الناس يقولون: إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، قال‏ (عليه السَّلام):
كذبوا واللَّه إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفة ميزان وإيمان هذا الخلق في كفة ميزان لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم.
بيان:
إن رجحان إيمان أبي طالب على إيمان هذا الخلق لدلالة على عصمته، والعصمة ملازمة للنبوة والوصاية، فتأمل.
وقد يقال: إن ما ورد في الحديث الخامس ليس دليلاً على متعلق العصمة (أعني النبوة أو الوصاية) إذ قد يكون أبو طالب رفيقاً للأنبياء والأوصياء وليس هو منهم.
قلنا: إن سماته وهيبته وسيرته هي سيرة الأنبياء والأوصياء، وهو بدوره مستلزم لأن يكون منهم، تماماً كما ورد في الأخبار أن عليّاً أمير المؤمنين له شبه بالأنبياء كقوله‏ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في عزمه وإلى ابراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى عليّ‏فبن أبي طالب. هذا مضافاً إلى القرائن الأخرى الدالة على أن له ما للأئمة إلاّ ما أخرجه الدليل.
7  روى الحافظ القندوزي الحنفي قال: عن عبّاس‏فبن عبد المطلب رضي اللَّه عنه قال: لمّا ولدت فاطمة بنت أسد عليّاً سمّته بإسم أبيها أسد ولم يرض أبو طالب بهذا الاسم فقال: هلمّ حتى نعلو أبا قبيس ليلاً وندعو خالق الخضراء لعلّه ينبئنا في اسمه، فلما أمسيا خرجا وصعدا أبا قبيس ودعيا اللَّه تعالى فأنشأ أبو طالب شعراً:
 

يا ربّ هذا الغسق الدّجيّ              والفلق المنبلج المضيّ
بيّن لنا عن أمرك المقضيّ               بما نسمّي ذلك الصبيّ
 

فإذا خشخشة من السماء فرفع أبو طالب طرفه، فإذا لوح مثل زبرجد أخضر فيه أربعة أسطر فأخذه بكلتي يديه وضمّه إلى صدره ضماً شديداً فإذا مكتوب:
 

خصصتما بالولد الزكيّ                 والطاهر المنتجب الرضيّ
واسمه من قاهر العلى                   عليّ اشتقّ من العليّ
 

فسرَّ أبو طالب سروراً عظيماً وخرّ ساجداً للَّه تبارك وتعالى وعقّ بعشر من الإبل، وكان اللوح معلّقاً في بيت اللَّه الحرام يفخر به بنو هاشم على قريش حتى غلب الحجاج ابن الزبير.
بيان:
يستفاد من هذا الحديث أن أبا طالب كان صدّيقاً موحّداً بل كان وصيّاً محدّثاً ملهماً من اللَّه تعالى.
وما ورد في الحديث الثالث: من أن نور أبي طالب يطفى‏ء أنوار الخلائق إلاّ أنوار النبيّ والعترة الطاهرة، كما أن اللَّه خلق نوره من نور الأئمة عليهم السلام دلالة عظمى على عصمته وطهارته، ولم يُخلقْ من نورهم إلاّ الملائكة والمرسلين والأنبياء والأوصياء عليهم السلام أجمعين.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لمن يَخْشَى لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ.


  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=16
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 03 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19