• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : العقائد والتاريخ .
              • القسم الفرعي : شبهات وردود .
                    • الموضوع : تفسير قول الإمام الصادق عليه السلام لأبي جعفر المنصور لعنه الله تعالى" فإنَّا إليك أحوج منك إلينا" .

تفسير قول الإمام الصادق عليه السلام لأبي جعفر المنصور لعنه الله تعالى" فإنَّا إليك أحوج منك إلينا"

الإسم:  *****

النص: 
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
سماحة المرجع الديني الكبير اية الله العلامة المحقق الفقية الشيخ محمد جميل حمود العاملي دام ظله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سماحة المرجع دمتم بالعز والهنا
ارفع الى مقامكم العالي السؤال والاستفسار الاتي ونأمل من سماحتكم الاجابة والتوضيح والتوجيه في الفهم
سؤال عن الحديث الوارد في الكافي في الروضة ج  8 ح 7  عن الإمام أبي عبدالله (عليه السلام) مع المنصور في موكبه
 قال أبوعبدالله (ع) و ذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم فقال: إني سرت مع أبي جعفر المنصور وهو في موكبه وهو على فرس وبين يديه خيل ومن خلفه خيل وأنا على حمار إلى جانبه فقال لي:" يا أبا عبدالله قد كان فينبغي لك أن تفرح بما أعطانا الله من القوة وفتح لنا من العز ولا تخبر الناس أنك أحق بهذا الامر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم قال فقلت ومن رفع هذا إليك عني فقد كذب فقال لي أتحلف على ما تقول فقلت إن الناس سحرة يعني يحبون أن يفسدوا قلبك علي فلا تمكنهم من سمعك فإنا إليك أحوج منك إلينا ".

   ماهو معنى كلام مولانا الامام الصادق عليه السلام وما مقصود كلامه للمنصور العباسي فانا اليك احوج منك الينا؟. 
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
الموضوع العقائدي: تفسير قول الإمام الصادق عليه السلام لأبي جعفر المنصور لعنه الله تعالى" فإنَّا إليك أحوج منك إلينا" / هل يحتاج الإمام عليه السلام إلى الظالم ؟ / الإمام عليه السلام غنيٌّ عن العالمين/ إحتياج الإمام عليه السلام للظالم من باب العنوان الثانوي /الإحتياج إلى الظالم مشروط بقيود / بعض الأنبياء استعانوا بالظالمين في قضاء حوائجهم الدنيوية / الإحتياج نوع تسخير للظالم / كلام الإمام عليه السلام صادر عن تقية بحق الشيعة .
بسمه تعالى
 
الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جواباً على سؤالكم الكريم حول معنى كلام مولانا الامام الصادق عليه السلام وما هو قصد الإمام عليه السلام بخطابه للمنصور العباسي لعنه الله عندما قال له الإمام عليه السلام:" فإنَّا اليك أحوج منك الينا " ؟.نستعراض الرواية أولاً ثم نجيب على السؤال، وهي التالي:
   روى المحدِّث الكليني رضي الله عنه في روضة الكافي ج 8 : 36 رقم 7 : بإسناده عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد، عن بعض أصحابه والثلاثة جميعا ، عن محمد بن أبي حمزة ، عن حمران قال : قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام وذكر هؤلاء عنده وسوء حال الشيعة عندهم ، فقال « إني سرت مع أبي جعفر المنصور وهو في موكبه وهو على فرس وبين يديه خيل ومن خلفه خيل وأنا على حمار إلى جانبه ، فقال لي : يا أبا عبد اللَّه قد كان ينبغي لك أن تفرح بما أعطانا اللَّه من القوة وفتح لنا من العز ولا تخبر الناس إنك أحق بهذا الأمر منا وأهل بيتك فتغرينا بك وبهم ، قال : فقلت : ومن رفع إليك هذا عني فقد كذب ، فقال لي : أتحلف على ما تقول قال : فقلت : إن الناس سحرة يعني يحبون أن يفسدوا قلبك عليَّ فلا تمكنهم من سمعك فإنا إليك أحوج منك إلينا .
فقال لي : تذكر يوم سألتك هل لنا ملك أو تراه لنا فيها فقلت : نعم طويل عريض شديد فلا تزالون في مهلة من أمركم وفسحة من دنياكم حتى تصيبوا منا دما حراما في شهر حرام في بلد حرام ، فعرفت أنه قد حفظ الحديث ، فقلت : لعل اللَّه أن يكفيك فإني لم أخصك بهذا وإنما هو حديث رويته ثم لعل غيرك من أهل بيتك أن يتولى ذلك ، فسكت عني ، فلما رجعت إلى منزلي أتاني بعض موالينا فقال : جعلت فداك واللَّه لقد رأيتك في موكب أبي جعفر وأنت على حمار وهو على فرس وقد أشرف عليك يكلمك كأنك تحته ، فقلت بيني وبين نفسي : هذا حجة اللَّه على الخلق وصاحب هذا الأمر الذي يقتدي به وهذا الآخر يعمل بالجور ويقتل أولاد الأنبياء ويسفك الدماء في الأرض بما لا يحب اللَّه وهو في موكبه وأنت على حمار ، فدخلني من ذلك شك حتى خفت على ديني ونفسي .
قال : فقلت : لو رأيت من كان حولي وبين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي من الملائكة لاحتقرته واحتقرت ما هو فيه ، فقال : الآن سكن قلبي ، ثم قال : إلى متى هؤلاء يملكون أو متى الراحة منهم فقلت :
أليس تعلم أن لكل شيء مدة قال : بلى ، فقلت : هل ينفعك علمك أن هذا الأمر إذا جاء كان أسرع من طرفة العين إنك لو تعلم حالهم عند اللَّه وكيف هي كنت لهم أشد بغضا ، ولو جهدت أو جهد أهل الأرض أن يدخلوهم في أشد مما هم فيه من الإثم لم يقدروا فلا يستفزنك الشيطان فإن العزة لله « وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ » .
ألا تعلم أن من انتظر أمرنا وصبر على ما يرى من الأذى والخوف هو غدا في زمرتنا ، فإذا رأيت الحق قد مات وذهب أهله ، ورأيت الجور قد شمل البلاد ، ورأيت القرآن قد خلق وأحدث فيه ما ليس فيه ، ووجه على الأهواء ، ورأيت الدين قد انكفى كما ينكفئ الماء ، ورأيت أهل الباطل قد استعلوا على أهل الحق ، ورأيت الشر ظاهرا لا ينهى عنه ويعذر أصحابه ، ورأيت الفسق قد ظهر واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، ورأيت المؤمن صامتا لا يقبل قوله ، ورأيت الفاسق يكذب ولا يرد عليه كذبه وفريته ، ورأيت الصغير يستحقر الكبير ، ورأيت الأرحام قد تقطعت ، ورأيت من يمتدح بالفسق يضحك منه ولا يرد عليه قوله ، ورأيت الغلام يعطي ما تعطي المرأة ، ورأيت النساء يتزوجن بالنساء .
ورأيت النبأ [ في نسخة أخرى: البناء وفي أخرى الثناء] قد كثر ، ورأيت الرجل ينفق المال في غير طاعة اللَّه فلا ينهى ولا يؤخذ على يديه ، ورأيت الناظر يتعوذ بالله مما يرى المؤمن فيه من الاجتهاد ، ورأيت الجار يؤذي جاره وليس له مانع ، ورأيت الكافر فرحا لما يرى في المؤمن ، مرحا لما يرى في الأرض من الفساد ، ورأيت الخمور تشرب علانية ويجتمع عليها من لا يخاف اللَّه تعالى ، ورأيت الآمر بالمعروف ذليلا ، ورأيت الفاسق فيما لا يحب اللَّه قويا محمودا ، ورأيت أصحاب الآيات يحتقرون ويحتقر من يحبهم ، ورأيت سبيل الخير منقطعا وسبيل الشر مسلوكا ، ورأيت بيت اللَّه قد عطل ويؤمر بتركه ، ورأيت الرجل يقول ما لا يفعله .
ورأيت الرجال يتسمنون للرجال والنساء للنساء ، ورأيت الرجل معيشته من دبره ومعيشة المرأة من فرجها ، ورأيت النساء يتخذن المجالس كما يتخذها الرجال ، ورأيت التأنيث في ولد العباس قد ظهر وأظهروا الخضاب وامتشطوا كامتشاط المرأة لزوجها ، وأعطوا الرجال الأموال على فروجهم وتنوفس في الرجال ويغاير عليه الرجال ، وكان صاحب المال أعز من المؤمن ، وكان الربا ظاهرا لا يعير ، وكان الزنى تمتدح به النساء ، ورأيت المرأة تصانع زوجها على نكاح الرجال ، ورأيت أكثر الناس وخير بيت من يساعد النساء على فسقهن ، ورأيت المؤمن محزونا محتقرا ذليلا ، ورأيت البدع والزنى قد ظهر ، ورأيت الناس يشهدون بشهادة  الزور ، ورأيت الحرام يحلل ، ورأيت الحلال يحرم . ورأيت الدين بالرأي وعطل الكتاب وأحكامه ، ورأيت الليل لا يستخفى به من الجرأة على اللَّه ، ورأيت المؤمن لا يستطيع أن ينكر إلا بقلبه ، ورأيت العظيم من المال ينفق في سخط اللَّه ، ورأيت الولاة يقربون أهل الكفر ويباعدون أهل الخير ، ورأيت الولاة يرتشون في الحكم ، ورأيت الولاية قبالة لمن زاد ، ورأيت ذوات الأرحام ينكحن ويكتفى بهن ، ورأيت الرجل يقتل على التهمة وعلى الظنة ويتغاير على الرجل الذكر فيبذل له نفسه وماله ، ورأيت الرجل يعير على إتيان النساء ، ورأيت الرجل يأكل من كسب امرأته من الفجور ، يعلم ذلك ويقيم عليه ، ورأيت المرأة تقهر زوجها وتعمل ما لا يشتهي وتنفق على زوجها ، ورأيت الرجل يكري امرأته وجاريته ويرضى بالدني من الطعام والشراب . ورأيت الأيمان بالله كثيرة على الزور ، ورأيت القمار قد ظهر ، ورأيت الشراب يباع ظاهرا ليس له مانع ، ورأيت النساء يبذلن أنفسهن لأهل الكفر ، ورأيت الملاهي قد ظهرت يمر بها ، لا يمنعها أحد أحدا ، ولا يجترئ أحد على منعها ، ورأيت الشريف يستذله الذي يخاف سلطانه ، ورأيت أقرب الناس من الولاة من يمتدح بشتمنا أهل البيت ، ورأيت من يحبنا يزور ولا تقبل شهادته ، ورأيت الزور من القول يتنافس فيه ، ورأيت القرآن قد ثقل على الناس استماعه وخف على الناس استماع الباطل ، ورأيت الجار يكرم الجار خوفا من لسانه ، ورأيت الحدود قد عطلت وعمل فيها بالأهواء، ورأيت المساجد قد زخرفت ، ورأيت أصدق الناس عند الناس المفتري الكذب ، ورأيت الشر قد ظهر والسعي بالنميمة ، ورأيت البغي قد فشا ، ورأيت الغيبة تستملح ويبشر بها الناس بعضهم بعضا ، ورأيت طلب الحج والجهاد لغير اللَّه . ورأيت السلطان يذل للكافر المؤمن ، ورأيت الخراب قد أديل من العمران ، ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان ، ورأيت سفك الدماء يستخف بها ، ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لعرض الدنيا ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقى ويسند إليه الأمور ، ورأيت الصلاة قد استخف بها ، ورأيت الرجل عنده المال الكثير ثم لم يزكه منذ ملكه ، ورأيت الميت ينبش من قبره ويؤذى وتباع أكفانه ، ورأيت الهرج قد كثر ، ورأيت الرجل يمسي نشوان ويصبح سكران لا يهتم بما الناس فيه ، ورأيت البهائم تنكح ، ورأيت البهائم يفرس بعضها بعضا ورأيت الرجل يخرج إلى مصلاه ويرجع وليس عليه شيء من ثيابه ، ورأيت قلوب الناس قد قست وجمدت أعينهم وثقل الذكر عليهم ، ورأيت السحت قد ظهر يتنافس فيه ، ورأيت المصلي إنما يصلي ليراه الناس ، ورأيت الفقيه يتفقه لغير الدين ، يطلب الدنيا والرئاسة ، ورأيت الناس مع من غلب .
ورأيت طالب الحلال يذم ويعير وطالب الحرام يمدح ويعظم ، ورأيت الحرمين يعمل فيها مما لا يحب اللَّه ، ولا يمنعهم مانع ولا يحول بينهم وبين العمل القبيح أحد ، ورأيت المعازف ظاهرة في الحرمين ، ورأيت الرجل يتكلم بشيء من الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقوم إليه من ينصحه في نفسه فيقول هذا عنك موضوع ، ورأيت الناس ينظر بعضهم إلى بعض ويقتدون بأهل الشر ، ورأيت مسلك الخير وطريقه خاليا لا يسلكه أحد ، ورأيت الميت يهزأ به ( يمر به - خ ل ) فلا يفزع له أحد ، ورأيت كل عام يحدث فيه من الشر والبدعة أكثر مما كان ، ورأيت الخلق والمجالس لا يتابعون إلا الأغنياء ، ورأيت المحتاج يعطى على الضحك به ويرحم لغير وجه اللَّه .
ورأيت الآيات في السماء لا يفزع لها أحد ، ورأيت الناس يتسافدون كما تسافد البهائم لا ينكر أحد منكرا تخوفا من الناس ، ورأيت الرجل ينفق الكثير في غير طاعة اللَّه ويمنع اليسير في طاعة اللَّه ، ورأيت العقوق قد ظهر واستخف بالوالدين وكانا من أسوأ الناس حالا عند الولد ويفرح بأن يفتري عليهما ، ورأيت النساء وقد غلبن على الملك وغلبن على كل أمر لا يؤتى إلا ما لهن فيه هوى ، ورأيت الرجل يفتري على أبيه ويدعو على والديه ويفرح بموتهما ، ورأيت الرجل إذا مر به يوم ولم يكتسب فيه الذنب العظيم من فجور أو بخس مكيال أو ميزان أو غشيان حرام أو شراب مسكر كئيبا حزينا يحسب أن ذلك اليوم عليه وضيعة من عمره ، ورأيت السلطان يحتكر الطعام .
ورأيت أموال ذوي القربى يقسم في الزور ويتقامر بها ويشرب بها الخمور ، ورأيت الخمر يتداوى بها وتوصف للمريض ويستشفى بها ، ورأيت الناس قد استووا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك التدين به ، ورأيت رياح المنافقين وأهل النفاق دائمة ورياح أهل الحق لا تحرك ، ورأيت الأذان بالأجر والصلاة بالأجر ، ورأيت المساجد محتشية ممن لا يخاف اللَّه ، يجتمعون فيها للغيبة وأكل لحوم أهل الحق ويتواصفون فيها شراب المسكر ، ورأيت السكران يصلي بالناس وهو لا يعقل ولا يشان بالسكر وإذا سكر أكرم واتقي وخيف وترك ، لا يعاقب ويعذر بسكره ، ورأيت من يأكل أموال اليتامى يحمد بصلاحه ، ورأيت القضاة يقضون بخلاف ما أمر اللَّه ، ورأيت الولاة يأتمنون الخونة للطمع .
ورأيت الميراث قد وضعته الولاة لأهل الفسق والجرأة على اللَّه يأخذون منهم ويخلونهم وما يشتهون ، ورأيت المنابر يؤمر عليها بالتقوى ولا يعمل القائل بما يأمر ، ورأيت الصلاة قد استخف بأوقاتها ، ورأيت الصدقة بالشفاعة لا يراد بها وجه اللَّه ويعطى لطلب الناس ، ورأيت الناس همتهم بطونهم وفروجهم ، لا يبالون بما أكلوا وما نكحوا ، ورأيت الدنيا مقبلة عليهم ، ورأيت أعلام الحق قد درست فكن على حذر واطلب إلى اللَّه تعالى النجاة واعلم أن الناس في سخط اللَّه تعالى وإنما يمهل لهم لأمر يراد بهم فكن مترقبا واجتهد ليراك اللَّه تعالى في خلاف ما هم عليه فإن نزل بهم العذاب وكنت فيهم عجلت إلى رحمة اللَّه وإن أخرت ابتلوا وكنت قد خرجت مما هم فيه من الجرأة على اللَّه تعالى واعلم أن اللَّه « لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ » وأن « رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ». انتهى الحديث.
  نقول وبالله تعالى نستعين:
  ظاهر سؤالكم يدور حول العلَّة في احتياج الإمام عليه السلام إلى ذلك الظالم الملعون، وهل يصح احتياج الإمام عليه السلام إلى الظالم مع كونه المعصوم المسدد من قبل الله تعالى..؟.
 والجواب: لا بدَّ من القول: إن الإمام المعصوم عليه السلام بما هو إمام مسدد من قبل الله تعالى لا يحتاج إلى أحدٍ من الخلق، بل الخلق محتاجون إليه في كلّ شيء، ذلك لأن الله تعالى أعطاه من القدرات ما يستغني بها عن عامة خلقه فلا يعوزه الإستعانة بأحد منهم على الإطلاق بمقتضى ما حباه الله من الولاية التكوينية التي تطوِّع له الأشياء  مهما كانت عظيمة ومستحيلة، فهو غنيٌّ بما عند الله تعالى من قدرات هائلة يعجز عن بيانها اللسان والقلم... فهو مستغنٍ بالله وليس بأحد سواه ؛ ومن كان مستغنياً بالله كيف يحتاج إلى سواه لا سيما من العباد الظالمين ...؟. 
 لقد قصَّ علينا القرآن الكريم تسخير النبي سليمان عليه السلام لمردة الجن الكافرين في قضاء حوائجه الدنيوية كما في قصة عرش بلقيس على وجه الخصوص حيث استعان النبي سليمان عليه السلام بعفريت من الجن، فتسخيره وإن كان من باب الولاية الإلهية عليهم إلا أنه يبقى في دائرة الإحتياج لمصالح إلهية وحكم ربانية، وكذلك احتياج النبي موسى عليه السلام إلى فرعون لما احتضنه فرعون مذ كان صغيراً يقوم بخدمته مشفقاً عليه ومحافظاً على حياته..وكذلك النبي يوسف عاش في قصر العزيز معززاً مكرماً يقوم العزيز بخدمته وقضاء حوائجه...وهكذا سيدنا عبد المطلب مع كونه وصياً عليه السلام فقد احتاج إلى أبرهة في قصة هجوم أبرهة على الكعبة وطلب سيدنا عبد المطلب عليه السلام إبله منه، وهو احتياج إليه في إرجاعه إبله قائلا له:( أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه ) في جواب إبرهة  ملك الحبشة لما سأله : ما تريد . 
فالأصل الأولي لحرمة إستعانة المعصوم عليه السلام بالظالم محكم من الناحية العقلية والشرعية إلا أن تطرأ عليه عناوين ثانوية لحكمة وضرورة واجبة تفرض عليه كإنسان طاهر لا يستعمل قدراته الإلهية في سبيل تحقيق احتياجاته الدنيوية، وذلك لأمرين: إمَّا لأن الله تعالى لم يجز له استعمال القدرة التكوينية لتلبية احتياجاته الدنيوية حتى لا يغالى به فيجعلونه إلهاً يعبدونه...وإمَّا لأن التشريع الإلهي يقتضي أن يخالط الناس ببدنه المادي الذي يستلزم التواصل الإجتماعي مع الناس بالإستعانة بهم من دون تمييز بين عادل وظالم، وذلك لحكمة التشريع للعباد في أن يستنوا به في قضاء حوائجهم الضرورية التي تستلزم الإحتياج الدنيوي إلى الظالم، والإحتياج لا يستلزم التوافق والتعاون مع الظالم على ظلمه....كلا بل هو تعاون خدماتي أو تجاري ضمن الشروط الشرعية ليس إلا وليس تعاوناً للظالم ضد المظلوم أو تعاوناً على الإثم وبث الفساد
    وكلا الأمرين صحيحان، لذا يتعين عليه بالعنوان الثانوي أن يستعين بالظالم لأجل مصلحة التشريع والقدوة وعدم المغالاة به، من هنا جاء في النصوص أن النبي والعترة عليهم السلام كانوا يستعينون ببعض الظالمين لقضاء حوائج المؤمنين، فالنبي الأعظم صلى الله عليه وآله كان يستعين على قضاء حوائجه الدنيوية ببعض نسائه كعائشة وحفصة ووالديهما أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وغيرهم ممن عُرفوا بظلمهم للعباد وخروجهم عن جادة الصراط.... وكذلك استعان الإمام المظلوم الحسن المجتبى عليه السلام بزوجته جعدة والإمام الجواد عليه السلام استعان بزوجته أم الفضل...كما أن بعض أئمتنا الطاهرين عليهم السلام كانوا يدخلون على الملوك الجبابرة ويطلبون منهم حوائج لبعض المؤمنين أو لفك أسرهم  ودفع الظلم عنهم.... هذا كله من باب العنوان الثانوي المعنون بعنوان التشريع ودفع شبهة الغلو عنهم عليهم السلام....واحتياج المعصوم عليه السلام للظالم في قضاء حاجة دنيوية لا يخرجه عن العصمة ولا يدخله في الحرمة لأن المعصوم منزه عن الأخطاء والفواحش والزلات، ولا ينقص ذلك من قدره وجلالته وعلو مقامه ما دام الأمر من باب التشريع والإضطرار ما لم يؤدِ إلى اللوازم المحرمة.
  إن احتياج المعصوم عليه السلام للظالم في أمور الدنيا ليس حراماً مطلقاً، بل الحرمة مقيَّدة بقيود وشروط، منها: المهادنة على الدين وعدم حفظ أحكام ربِّ العالمين وشريعة سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وعدم تضييع حقوق المؤمنين الموالين المخلصين لأنهم قوام التشيع بعد الأئمة الطاهرين عليهم السلام، لذا فإن وجوب حفظهم من الإندثار والهلاك من صميم وظائف الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين؛ من هنا جاء عن أئمتنا الأنوار المقدسين عليهم السلام الكثير من الأخبار الكاشفة عن سعيهم الدؤوب في نصرة أوليائهم بدفع الشرور عنهم، حتى أنهم أمروهم بالتقية والمجاهرة ـ في بعض الأحيان ـ بمداراة الظالم ضمن حدود الشرع ليكف ظلمه عنهم فيأمنوا شره ويدفعوا كيده....وكانوا عليهم السلام يتحملون الأذية والظلم الفظيع من قبل الظالمين من أجل شيعتهم الموالين للحفاظ عليهم والإبقاء على وجودهم، لأن ببقائهم تستمر مسيرة التشيع وتبقى شعلته الوقادة في القلوب والقوالب إلى ظهور الإمام المعظم الحجة القائم عليه السلامن كما أنهم كانوا ـ ولا يزالون ـ يتحملون الكثير من المصائب والهموم والغموم واستعمال التقية والتورية للحفاظ على شيعتهم في أغلب الأحيان، لذا كشفت أخبار كثيرة عن اضطرار أئمتنا الطاهرين سلام الله عليهم إلى مداراة الحكام الظالمين لأجل دفع الشرور عن شيعتهم، مع أنهم ليسوا مضطرين لذلك لانصرافهم عن الدنيا ولذائذها وحطامها لولا مصلحة الحفاظ على مواليهم وشيعتهم المخلصين، فكانوا ينقادون ظاهراً للظالم لأجل المصلحة التي أشرنا إليها آنفاً؛ وهي ما أشار إليها الحديث المتقدم، وهذا الإنقياد هو نوع احتياج مادي إلى الظالم لأجل مصلحة أهم وهي الحفاظ على المؤمنين، وهذا الإحتياج نظير احتياج المعصوم عليه السلام إلى خادمه وزوجته يقومان بخدمته في حوائجه الدنيوية، فإذا جاز احتياجه إلى خادمه وزوجته لأجل حاجة له فبطريق أولى يحتاج إلى الظالم ليكف من غلوائه وظلمه له وللناس لا سيما المؤمنين بالله وبرسوله وبه عليهما السلام فإنه احتياج مبرر شرعاً وعقلاً ولا يدخل في الإحتياج المستحيل على الإمام عليه السلام في المعارف وبيان الأحكام والعقائد والفضائل والقرب من الله تعالى، فالخلق كلهم محتاجون إليه ولا يحتاج إلى أحد من الخلق...ولولا الأمر الإلهي باستعمال التقية ومداراة الظالم لأجل الحفاظ على المؤمنين لما كان الإمام عليه السلام بحاجة إلى كل ذلك لأنه غني عن الخلق في كلِّ شيء.
وبعبارة أُخرى: إن احتياج المعصوم عليه السلام للظالم في قضاء حوائجه المادية هو نوع تسخير للظالم لكي يقضي حوائج المعصوم عليه السلام من دون أن يكون في إعانة على الإثم والعدوان وحاشا للمعصوم عليه السلام أن يفعل ذلك بعنوان الإثم فإنه منزه عنه عقلاً وشرعاً.
  والحاصل: إن الحديث المتقدم صحيح سنداً ومقبولٌ دلالةً؛ ذلك لأن كلام الإمام الصادق عليه السلام ظاهر وواضح في بيان حال الظالمين والفساق وكيفية التعامل معهم؛ وهي رواية تفصل حال الناس في آخر الزمان، كما أنها تحكي واقع عامة الناس المنجرفين وراء الدنيا وزخارفها.
 وصدرها ظاهر في التقية من أبي جعفر المنصور لعنه الله،  وموضع الشاهد فيها هو  قوله عليه السلام:" فإنّا أحوج منك إلينا " واضح من حيث إن المنصور كان قادراً على قتل الإمام عليه السلام لولا ما صدر منه عليه السلام من التقية، فاستعماله للتقية لكي يبقي الإمام عليه السلام على حياته وليدفع الضرر عن شيعته، فالإمام عليه السلام أحوج إلى المنصور منه إلى أهل البيت عليهم السلام لأن الجبابرة بيدهم الحل والفصل يقتلون من جابههم بالحكمة والموعظة الحسنة.
 وأما قول الإمام عليه السلام :( يحبون أن يُفسدوا قلبك عليّ ) فينقلون مني إليك ما يوجب تغيرك عليّ ( فلا تمكنهم من سمعك ) أي فلا تسمع قولهم فيَّ؛ وعلله بقوله ( فإنا إليك أحوج منك إلينا ) لأن احتياجه عليه السلام إليه في حفظ دمه ودم شيعته ورعاية حقوقهم وترك الجور عليهم ومراعاة الصلة من دون أن يستعمل الإمام عليه السلام ولايته التكوينية في حفظ نفسه وحفظ شيعته، وهذا أمر متحقق ثابت وإما احتياجه إليه عليه السلام فقد كان في الأمور الدينية وقد أفسد الدين ولوازمه فكأنه لم يكن محتاجاً إليه .
والسلام عليكم
 
حررها كلبهم الباسط ذراعيه بالوصيد
محمد جميل حمُّود العاملي
بيروت بتاريخ 2 جمادى الثانية 1436هـ.

  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=1156
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 04 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28