• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : الفقه .
              • القسم الفرعي : إستفتاءات وأجوبة .
                    • الموضوع : المواضيع الفقهية حول الشعائر الحسينيَّة المقدَّسة .

المواضيع الفقهية حول الشعائر الحسينيَّة المقدَّسة

الإسم:  *****

النص: 

بسم الله الرحمن الرحیم
السلام عليکم و رحمة الله و برکاته 
سماحة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ الجليل محمد جميل حمود العاملي
بعد الدعاء لکم بالصحة والعافية
نسأل جنابکم: ما رأيکم فی هذه الشبهه؟ مولای عفواً بالتفصيل:(أنّ البكاء وإقامه العزاء على مصائب أئمة الهدی عليهم السلام تنافي الصَبر فيه القرآن و الروايات، ولا تنسجم مع الاستعانة باللَّه عزّ وجلّ .. كما في سورة البقرة «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للَّهِ وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» فالبكاء منافٍ للصبر والتحمّل ومناقض للإستعانة باللَّه سبحانه. 
و أما الروايات:والصبر على ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة، وصبرعن المعصية، وصبر على المصيبة.
وقال علي عليه السلام: الصبر مطية لا تكبوا بصاحبها.
والصبر على المصيبة مصيبة للشامت، ولا شك انّ الصابر محرز أجرها، ويكبت عدوّه بصبره، ويسلم من ضرر الجزع بشق ثوب أو ألم في بدنه، والجازع يدخل عليه بجزعه ثلاث آفات: يحبط أجره، ويشمت عدوّه، ويدخل الضرر على نفسه بما يلحقه من الألم، وصبر الصابر مصيبة للشامت.وينبغي للعاقل أن تحدث له المصيبة موعظة، لأنّ من الجائز أن يكون موضع المفقود، فهو أحق بالحمد لله والثناء عليه، ويحدث في نفسه الاستعداد بمثل ما نزل بغيره من موت أو بلية يستدفعها بالدعاء.
   وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا ايمان لمن لا صبرله.
إرشاد القلوب نويسنده ، الحسن بن أبي الحسن محمد الدّيلمي ج1ص250
12 ـ كا : عن محمدبن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى قال : أخبرني يحيى ابن سليم الطائفي قال : أخبرني عمروبن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي قال : قال رسول الله : الصبرثلاثة : صبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة وصبر على المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كمابين السماء إلى الارض ، ومنصبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الارض إلى العرش ، ومن صبر على المعصية كتب الله له تسعمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الارض إلى منتهى العرش .
بحار الأنوار العلامة المجلسي ج71 ص77.
وقال أمير المؤمنين : أيها الناس عليكم بالصبر فانه لادين لمن لاصبر له.
وقال: إنك إن صبرت جرت عليك المقادير ، وأنت مأجور،وإنك إن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور.
عن أبي عبدالله عليه السلام قال : الصبر رأس الايمان.
عنه قال : الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فاذا ذهب الرأس ذهب الجسد كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان.
بحار الأنوار ، العلامة المجلسي ج71 ص92
56 ـ محص : عن ربعي ، عن أبي عبدالله قال : إن الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن فيأتيه البلاء ، وهو صبور ، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر فيأتيه البلاء وهو جزوع. بحار الأنوار نويسنده العلامة المجلسي ج71 ص95
وقال قال أبو الحسن الثالث المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان. بحار الأنوار نويسنده العلامة المجلسي ج82ص88
نسألکم الدعاء شکراً جزيلاً
16 رجب1436هجري
 
 
 
المواضيع الفقهية حول الشعائر الحسينيَّة المقدَّسة:
   مُقَدِّمةُ شكرٍ للسائل الفاضل عن الشعائر الحسينية المقدَّسة/ الشروعُ في الردِّ على الشبهةِ حولَ البكاء على مصائبِ آلِ الله تعالى/ تقريرُ الشبهة/ مقدِّمة لا بدَّ منها حولَ ظاهرةِ البكاء/ السبب الداعي إلى التشكيك بمقام النبيِّ وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام/ لماذا انصبَّ اهتمامُ البتريين والنواصب على التشكيك بالشعائر الحسينية المقدَّسة دون بقية مراسم الفرح؟/ بيانُ حقيقةِ البكاء والمناشئ الداعية إليه/ هنا نقاط حول حقيقة البكاء/ النقطة الأولى: حقيقة البكاء في علم النفس والإجتماع/ الإشكال على أحد الباحثين حول تقسيمه للمدركات الحضورية/ التلازم العقلي بين القوى العقلية والقوى العملية/ النقطة الثانية: تعريف البكاء في اللغة والإصطلاح الشرعي/ نوعان من الهجوم الممنهج على الحالة الولائية/ البكاء هو خروج الدمع من العين وليس مجرد الحزن فقط/ الإشكال على أحد الباحثين على دعواه بأن البكاء هو مجرد الحزن/ النقطة الثالثة: أهم الإشكالات على ظاهرة البكاء على أهل البيت عليهم السلام/ الإعتراض الأول على البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام بدعوى أنَّ روايات البكاء ضعيفةُ السندِ ومضمونها يتوافق مع اليهود والنصارى/ الإيراد على دعوى ضعف السند بوجوهٍ أربعة/ الجواب على ضعف مضامين روايات البكاء من وجهين/ الإعتراض الثاني على البكاء على الإمام المعظَّم سيِّد الشهداء عليه السلام/ مفاد الإعتراض: أن مضمون روايات البكاء ليس أبدياً بل كان خاصاً في فترة زمنية معينة/ الجواب على الإعتراض الثاني من وجوهٍ متعددة/ إشكالٌ وحلٌّ/ مفاد الإشكال: نهي الإمام المعظَّم أبي عبد الله الحسين عليه السلام عياله يوم الطف عن البكاء/ حل الإشكال من وجهين/ الإعتراض الثالث على البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام/ مفاد الإشكال: أن البكاءَ حالةٌ مَرَضيَّةٌ في النفس الإنسانية/ الجواب على الإعتراض من وجوهٍ عدة/ الإعتراض الرابع على البكاء على مصائب الأحباب بأنه ظاهرة تنافي الصبر المرغوب فيه ولا تنسجم مع الإستعانة بالله تعالى/ الجواب على الإعتراض الرابع من وجوه متعددة/ الإيراد على دعوى أن رواياتِ كتاب "مستدرك الوسائل" كلّها مراسيل/ بكاءُ السماءِ والأرض على نبي الله يحيى ووليّ الله الأعظم سيّد الشهداء عليه السلام/ فلسفة عدم بكاء عامة السماوات على النبيِّ يحيى عليه السلام بخلاف ذلك على الإمام الأعظم أبي عبد الله الحسين عليه السلام/ الإيراد على الدعوى القائلة بأنَّ بكاءَ السماءِ والأرض إنما هو بكاءٌ مجازيٌ/ إشكالٌ حولَ تعارضِ البكاء مع القرآن/ حلُّ الإشكال/ الإعتراض الخامس على البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام مفاده أن البكاءَ سلاحٌ ضدَّ النفسِ الإنسانية/ الإيراد على الإعتراض بوجوه متعددة.
 
بسم الله الرَّحمان الرَّحيم
 
     الحمد لله ربّ العالمين، ناصر المستضعفين مبير الظالمين ، مهلك المتكبرين والفراعنة المستبدين، وأفضل الصلوات وأزكى التسليمات على رسول الله محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين المبعوثين رحمة للعالمين، أبواب الهداية وسفن النجاة والعروة الوثقى وقادة خلقه أجمعين، واللعنة الدائمة السرمدية الأبدية على أعدائهم ومبغضيهم والناصبين لهم ولشيعتهم الموالين العداوة والبغضاء من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين...وبعد...
    إلى جناب الأخ السديد والموفق الرشيد الفاضل المفضال ..... دام عزه وحفظه الله تبارك اسمه ويسر أمره ودفع شرور الظالمين عنه وجعله من خيرة عباده من أولياء آل محمد عليهم السلام بالنبيّ وآله الطاهرين صلوات ربي عليهم أجمعين...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
   نشكر غيرتكم وحميتكم الدينية على أهم الشعائر الدينية ألا وهي البكاء على سادة الخلق من آل الله صلوات الله عليهم أجمعين وإقامة العزاء على مصائبهم الكبرى التي يذوب لأجلها صم الصخور وتتفطر لها السماوات العُلى وما فيها من الحور والأولياء والأنبياء والملائكة الكروبين وغير الكروبيين....والتشيع الأصيل سيبقى شامخاً كالطود العظيم ما دام في هذه الأُمة علماء مرابطون على الثغر الذي يلي إبليس وجنوده، وسيبقى شامخاً ما دام أيضاً هناك مؤمنون موالون كشخصكم الكريم يترصدون لعواء البتريين المستكبرين، فلا تستكين نفوسهم لهرطقات البتريين وعواء النواصب الحاقدين مهما تكاتفت أقلامهم وتآزروا على هضم حقوق آل الله عليهم السلام، لأن لله جنوداً من العلماء والمتعلمين رهبان في الليل وأُسد في النهار لا يخافون في الله لومة لائم أبداً ...جعلنا الله وإياكم من تلك الجنود التي تترصد تشكيكات أولئك الملعونين من عند الله على لسان رسوله وآله الطاهرين الميامين سلام الله عليهم....!.
الشروع في الردِّ على الشبهة حول البكاء:
   إنَّ الدعوى القائلة بأن:« البكاء على الأئمة الأطهار عليهم السلام وإقامة العزاء على مصائبهم تنافي الصبر الوارد في القرآن والروايات الشريفة ولا تنسجم مع الإستعانة بالله تعالى كما في قوله تعالى في سورة البقرة (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنا إليه راجعون) وبالتالي يكون البكاء منافياً للصبر والتحمل ومناقضاً للإستعانة بالله سبحانه...»، دونها خرط القتاد، ولا تصمد أمام التشريح العلمي والفقهي والقرآني والعقدي، وهي كغيرها من التشكيكات التي تطلُّ علينا برأسها بين الفينة والأُخرى عبر الكتب والدراسات وبقية المجالات المتعددة الوجوه كالمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية...إلخ؛  وها نحن سنتناول أهم التشكيكات التي اعتمدها البتريون من الشيعة والمخالفون معاً ـ وهما من طينة واحدة ـ ونقوم بتفنيدها الواحدة تلو الأخرى.
    لقد تضمنت الشبهةُ المتقدِّمة تشكيكين طالما رددهما البتريون والعلمانيون والنواصب من المخالفين وشيعة بني أُمية وبني العباس المنتشرين في الحوزات الشيعية بثوب العمائم الشيعية والولاء لأهل بيت النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله.. وهما التالي:
  (التشكيك الأول): أن البكاء على أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام منافٍ للصبر والتحمل والتسليم لأمر الله تعالى.
  (التشكيك الثاني): إن البكاء عليهم صلوات الله عليهم يتعارض مع منطوق قوله تعالى في سورة البقرة (الذين إذا أصابتهم مصيبة...).
    والإيراد على التشكيكين المذكورين يتطلب منا بيان مقدمة نعتبرها غاية في الأهمية وهي: "ظاهرة التشكيك في الوسط الشيعي ومدى خطورتها على العقيدة والتشريع"... لذا نقول وعلى الله تعالى نتوكل، وإلى كهف آل محمد نلتجئ ونستكين:
  إن ظاهرة التشكيك بالعقائد والمبادئ الحقَّة والقيم العليا في الإسلام الأصيل المتمثل بآل محمد سلام الله عليهم ليست وليدة الساعة ... بل لها جذور متأصلة في تاريخ الإسلام وعلى وجه التحديد منذ بعث الله تعالى رسوله الكريم محمداً وآله الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين ... والعميد الأول لمدرسة التشكيك هو عمر بن الخطاب وفصيله أبو بكر اللذان فتحا الباب على مصرعيه في التشكيك بنبوة النبيِّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وبكلِّ ما جاء به من وحي وتشريع وعقيدة وتاريخ ... ولو لم يكن إلا مقالة مؤسس سقيفة بني ساعدة عمر بن الخطاب رداً على النبي الأكرم الذي أمرهم بإحضار الدواة والقرطاس ليكتب لهم كتاباً بحق أمير المؤمنين علي عليه السلام ليكون مستنداً خطياً لهم لعلمه بأنهم سينكرون الوصية له يوم الغدير، فقال عمر: «إن الرجل ليهجر؛ حسبنا كتاب الله » ظناً منه لعنه الله أن الكتاب يغني عن وصايا النبي وأقواله وأفعاله وتقاريره ... مع أن الكتاب الكريم أمر باتباع النبيِّ صلّى الله عليه وآله في كلِّ ما يأمر به وينهى عنه بمقتضى قوله تعالى: ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول...)،  ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فإطاعة النبي صلى الله عليه وآله واجبة مطلقاً في كلّ أقوله وأفعاله وسلوكه باعتباره المعصوم الذي لا يتكلم عن هوى ولا عن مصلحة شخصية ولا رغبة في دنيا بمقتضى كلام القرآن الذي تشدق عمر بن الخطاب في الإعتماد عليه كظابطة كلية للتشريع والسير والسلوك، فقال تعالى كاشفاً عن الحقيقة المحمدية العلوية الفاطمية:( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) وقوله تعالى ( إن هو إلا وحي يوحى علّمه شديد القوى) (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ( أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم...).
    إنَّ الحقيقة المحمدية (على صاحبها آلاف السلام والتحية) هي ـ كما أشرنا أعلاه ـ ضابطة كلية لمعرفة التفاصيل العقدية والحكمية من خلال بيان النبي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ... ولا يجوز الفصل بين الكتاب وقرينه من أهل بيت العصمة والطهارة سلام الله عليهم بمقتضى الآيات المتقدمة التي ربطت طاعة الله المطلقة بطاعة رسوله وأهل بيته (أولي الأمر)؛ فالكتاب وأهل بيت العصمة ثنائيان لا ينفصلان أبداً، وهو ما أكدته الأحاديث الشريفة الكثيرة لا سيّما حديث الثقلين الذي ربط بين الكتاب والعترة فقط، ولم يشرك معهما أحداً من الصحابة حتى على مستوى المخلصين منهم كالمقداد وعمار وسلمان وأبي ذر وجابر الأنصاري وحذيفة اليماني وأضرابهم من أهل التقوى والورع والعرفان بالله ورسوله وأهل بيته الكرام المطهرين عليهم السلام... ولكنَّ أعمدة السقيفة عمدوا إلى تفكيك الإرتباط التكويني والتشريعي والروحي، هذا الإرتباط الذي لم يكن من صنع المدرسة الشيعية ولا من كبار أعلامها... بل هو ارتباط تكويني وتشريعي مصدره هو الله تعالى في كتابه الكريم حسبما أشرنا سابقاً إلا أن وطاويط الليل من أعمدة السقيفة لم يبالوا بكلام الله ولم يحترموا شخص رسول الله، فلم يراعوا له حرمة ولا ذمة... فشككوا بكلّ ما قاله النبي صلى الله عليه وآله واستخفوا به وضعّفوا مدركاته العقلية والنفسية والروحية عندما نعته عمر بن الخطاب بمقالته المشهورة:« إن الرجل ليهجر»؛ فجعلوا عقولهم حاكمةً على عقله الشريف، ومدركاتهم فوق مدركاته، وأوامرهم فوق أوامره ... فهل توجد ظلامة بعد هذه الظلامة لسيّد ولد آدم عليه السلام ولمن بعثه الله رحمةً للعالمين ولمن قال عنه الله سبحانه وتعالى (كان من ربه كقاب قوسين أو أدنى..) (وإنك لعلى خلق عظيم).
*السبب الداعي إلى التشكيك بمقام النبيِّ وآله عليهم السلام *
    والسبب الداعي للتشكيك بمقام النبي وأهل بيته عليهم السلام يرجع إلى النصب والعداوة لهم وللرسالة التي حملها النبيُّ وآله ودعوا الناس إليها ... فقام هؤلاء النواصب بتقويض المقامات الرفيعة لهم أولاً من خلال التشكيك بهم، ثم تحطيم الأسس التي جاؤوا بها من عند رب العالمين، وأنجح وسيلة في تحقيق مبتغاهم هو التشكيك بمن ذكرنا آنفاً، فأسسوا مدرسةً تشكيكية تستمر من بعدهم لتحطيم رسالة النبي وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ... وبدأت المسيرة من هنا وهناك عبر العصور الإسلامية وتأثر بهم العديد من المحسوبين على التشيع فجندوهم بكل ما يستقوون به على تحقيق الغاية المنشودة، وقد كان ضرر هؤلاء المتشيعة أعظم خطراً من أعلام المخالفين بسبب ما يتصف به المنافق من دهاء ومكر تستراً بشعارات الإسلام والتشيع فلا يجد مغمزاً من شيعي لا سيما إذا كان متزيياً بزي علماء الدين والغيرة على شريعة سيد المرسلين وأهل بيته الطاهرين، فإن ذلك ادعى إلى القبول وعدم الإعتراض وأسهل في اصطياد السذج من الموالين الأبرياء...! فبدأت التشكيكات تتقاطر من البتريين على الساحة الشيعيَّة يميناً وشمالاً، شرقاً وجنوباً، فكان جلُّ اهتمامهم منصباً على الشعائر الحسينية التي من أهمها البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام والمصائب التي حلَّت على شخصه الكريم وأضافوا إليها مصائب أهل بيت العصمة والطهارة كآبائه وأبنائه الطاهرين سلام الله عليهم...!.
* الأسباب الداعية إلى التشكيك بالشعائر الحسينية المقدَّسة *
  والسؤال الذي لا بدَّ منه هو الآتي: لماذا انصب اهتمامُ النواصبِ المخالفين والبتريين من الشيعة على الشعائر الحزينة كالبكاء ومتعلقاته الشريفة مع وفرة المراسم الأخرى الإحيائية كالفرح أيام مواليدهم وذكرياتهم الخالية من الحزن والأسى، ما يعني أن هناك هدفاً وغايةً يرومون من خلالهما تحطيم الشعائر البكائية ومتعلقاتها دون سواها من بقية المراسم الإحيائية ... فما السر يا تُرى...؟!
  والجواب: إن الاهتمام في التشكيك بالشعائر الحزينة دون سواها يستبطن أمرين هما الآتي:
  (الأمر الأول): تحلل الشيعة وتمييعهم وتذويبهم في مراسم الفرح والبطر، لأُنس النفس البشرية المنحرفة بعوامل الفساد والضلال والتي من أهمها طغيان حالة الفرح والسرور على النفوس وبالتالي خروجها عن جادة الصواب والفلاح بسبب ما يتصف به الفرح من نوازع الشر والشهوة البهيمية التي تحرف بصاحبها نحو التحلل الخلقي والديني، فيتناسى صاحبها ما جرى على قادته الطاهرين من الأئمة المعصومين عليهم السلام، وبنسيانه أو تناسيه تدخل النفس الإنسانية في دهاليز إهمال تاريخنا، وبالتالي عقد الصلح مع أعداء قادته الميامين.
  (الأمر الثاني): زرع الشك في ظلامات أهل البيت عليهم السلام من قبل أعدائهم من أعمدة السقيفة وبني أمية وبني العباس لعنهم الله تعالى ... لأن التشكيك في الظلامات يستلزم تبرأة المعادين لأهل البيت عليهم السلام وبالتالي حسن الظن بهم، ما يعني نسيان ما جرى على أهل البيت عليهم السلام من خلال نسيان إحياء ظلاماتهم ومصائبهم ...
  وأئمتنا الطاهرون سلام الله عليهم وإنْ نالهم النصيبُ الكافي من التشكيك في ظلاماتهم والبكاء على مصائبهم إلا أن إمامنا المعظَّم سيِّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام قد ناله النصيب الأكبر والسهم الأوفر من الهجوم على شعائره المقدَّسة لا سيَّما البكاء الذي هو عمدة أقسام الشعائر الحسينية (على صاحبها آلاف السلام والتحية)، لما في إحيائها من رفضِ الباطل وتقويضِ دعائم الجور والثورة على الطغاة والمتكبرين . فالبكاء عليه(سلام الله عليه) – إذاً - يؤجج في صدور الباكين الثورة والنقمة على قاتليه وأتباعهم في كل عصر وزمان .. لذا كان من اللازم عند مبغضيه أن يبعدوا الموالين من الشيعة عن إحياء مراسمه العاشورائية من خلال رفع القداسة عنها بالتشكيك في مفهوم البكاء واللوازم المترتبة عليه، سواء كان البكاء على مصائبه أو مصائب أحدٍ من أهل بيته، لأن نجاحهم في إفساد مفهوم البكاء عليه يؤدي بطبيعة الحال إلى إفساد مفهوم البكاء على مصائب آبائه وأبنائه الطاهرين عليهم السلام ... فكانت مهمة أعدائهم مزدوجة الأطراف تتناول التشكيك في مفهوم البكاء على مصائبهم بشكلٍ عام، ومصائبِ الإمام الحسين عليه السلام وأُمِّه مولاتنا المعظمة السيِّدة الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام بشكلٍ خاص ... لأن نسف الأصل يستلزمُ نسفَ الفرعِ المتعلق به، ذلك لأن ظلامات أئمتنا الطاهرين سلام الله عليهم متفرعةٌ عن ظلم أعمدة السقيفة لمولاتنا الصدّيقة الكبرى وبعلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام، وهو ما شهدت به النصوص الكثيرة، ومنها زيارة عاشوراء المقدّسة، فقرة قوله عليه السلام:(اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد  وآل محمد وآخر تابعٍ لهم على ذلك،  اللهم العنهم جميعاً).
  لقد حُورِبَ الإمامُ سيّد الشهداء عليه السلام كما حوربت أُمُّه الشريفة الطاهرة الزكيَّة(عليها السلام) بظلاماتها من خلال التشكيك بما جرى عليها من مآسٍ وأحزانٍ وكوارث حلَّت على شخصها المبارك .. إنه الكراهية والبغضاء لها ولأهل بيتها الطاهرين عليهم السلام ... فقد حاربهم الأعداء في كلِّ شيء، حتى في أسمائهم التي يرفعها أتباعهم... فمنذ فترة غير بعيدة في العراق شنَّ الحشدُ الشعبي للدفاع عن المقامات المقدَّسة في العراق ـ بحسب زعمهم ـ فأطلقوا على إحدى العمليات الكبرى إسم (لبيك يا حسين) فقامت قيامة النواصب والبتريين على التسمية المذكورة لأنها باعتقادهم من الشعارات المذهبية التي تقسِّم الأُمَّةَ الإسلامية وتثير فيها النعرات المذهبية حتى انبرى مقتدى الصدر فاقترح استبدال التسمية الشريفة باسمٍ آخر هو:( لبيك يا صلاح الدين)، فالتلبية لصلاح الدين الذي ذبح في مصر مئةَ ألف شيعياً لا تفرِّق الأُمَّة ولا تثيرُ النعراتِ الطائفية في الوسط العراقي، لكنَّ التلبية لصلاح الدين توحِّد الأُمة ولا تثير الفوضى المذهبية، والتلبية لصلاح الدين  أحبّ إلى الجميع من التلبية للإمام الحسين عليه السلام ... شنشنة أعرفها من أخزم...!.    
  آهٍ لظلامتكِ سيّدتي يا زهراء ... آهٍ لظلامتكَ سيّدي يا أبا عبد الله...!
*بيان حقيقة البكاء والمناشئ الداعية إليه *
     عودٌ على بَدْء: لا بدَّ لنا من بيان حقيقة البكاء الذي يدور البحث حوله والمناشئ الداعية إليه ثم نعرّج على الإيراد على الإشكالين اللذين تضمنهما السؤال من جنابكم الكريم حول شبهة البكاء على مصائب أهل البيت عليهم السلام، وسيكون الجوابُ عنهما ضمن النقطة الثالثة... لذا سنقسِّم البحثَ حول البكاء إلى نقاطٍ هي الآتي:
  (النقطة الأولى): حقيقة البكاء في علم النفس والإجتماع والأخلاق والعرف العقلائي .
  (النقطة الثانية): تعريف البكاء لغةً واصطلاحاً.
  (النقطة الثالثة): الإشكالات البترية الناصبيَّة على ظاهرة البكاء على مصائب أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام).
  (البحث في النقطة الأولى): البحث حول موضوع البكاء على فقدان الأعزاء والأحباب قد جرت عليها سيرة العقلاء من كل دين وفي كل عصر وزمان، وقد شغل البكاء حيِّزاً مهمَّاً في اهتمام العلماء من كافة العلوم الإجتماعية والنفسيَّة والطبية والأخلاقية والفلسفية وعلوم الحضارة المدنية والمتوحشة حتى صار موضوع البكاء موضوعاً طبياً حرفياً، تُخصَّص له الأموال للبحوث العميقة، وآخر ما توصل إليه الطب الحديث والطب النفسي أن البكاء يزيل العقد النفسية من صقع النفس وأن من لا يبكي تزداد عقده النفسية فيولد له حالة عصبية متوترة وتشنجات فسيولوجية وبالتالي زيادة الأمراض العضوية المستعصية فضلاً عن الأمراض البدنية الهائلة ...
  إن مراكز البحث العلمي النفسي والطبي وغيرها من مراكز البحوث العلمية تنصب جهودها حول أهمية البكاء على الصعيد النفسي والنوعي الإجتماعي، محاولين معرفة حقيقة البكاء بشكل تفصيلي من الناحية النفسية والطبية وهل هو من أفعال النفس أو أنه من أفعال الجوارح؟ وإن كان الإتفاق بين علماء الأخلاق قائم على أنه من أفعال القوى النفسية وليست من أفعال القوى العضوية وإن كانت الأخيرة طريقاً للقوة النفسية المحركة للأعضاء الخارجية كالعينين للتعبير عما تشعره النفس من آلام اتجاه موضوع البكاء بما هو بكاء بغض النظر عن الخلفيات الموضوعية لإفراز الدمع على وجنتي الباكي ...
  وبما أنّ البكاء من أفعال النفس الإنسانية بل والحيوانية أيضاً ـ لأن الحيوانات تبكي كما هو مشهور ـ فلا بدَّ من البحث عن تساؤلات مهمة تظهر على السطح العلمي منها: كيف تصدر النفسُ البكاء ومتى تصدره ؟ وهل أن البكاء بكافة أفراده ومصاديقه يعتبر فعلاً سلبياً أم أنه فعل إيجابي لما تتصف به النفس الإنسانية أو الحيوانية من حالات وإنفعالات عصبية وحسية، فالنفس لا تتصف بلونٍ واحد بذاتها، وإنما تتصف بلحاظ الغايات المتعددة، فتارة يبكي الإنسان من الخوف وتارة بعنوان المحبة وأخرى بعنوان الأسى والمرارة ... فموضوع البكاء واحد إلا أن الغايات متعددة.
 ومهما يكن من أمر: إنَّ البكاء بلونه الذاتي يعتبر نتيجةً حتميةً للقوى الإدراكية في صقع النفس، وهذه المدركات النفسية على نوعين: الإدراكات الحصولية التصورية كالخيال والوهم، والإدراكات الحضورية النابعة من العلم الحضوري لدى الباكي ... وهي إدراكات شهوية عيانية للأشياء، وليس كما تصور بعض الباحثين في تفرقته للمدركات الحصولية والحضورية، فمثَّل للأولى بقوة الحس، وللثانية الإدراك العياني في نشآت أخرى غير النشأة المادية الحسية ... فالمدرك الحسي هو بعينه المدرك الحضوري الحاضر بالحس والعيان لدى متصوره ... كما أن الحضوري لا يقتصر على المدركات الأخروية المحضة ـ كما تصوره ذاك القائل ـ كالإيمان بالله والرسل والأولياء الغائبين عن أبصارنا بل يشمل المنشآت المادية في عالم الحس ... وقد أوضحنا الفرق بين المدركين الحصولي والحضوري في كتابنا الموسوم بـ (شبهة إلقاء المعصوم عليه السلام في التهلكة ودحضها) فليراجع ....
  يتلخص مما تقدَّم: إن للنفس نوعين من القوى الإدراكية هما: الإدراكات الحصولية (الكسبية) والإدراكات الحضورية.
  وثمة نوع آخر من المدركات في النفس الإنسانية وهي القوة العملية المتمثلة بالقوى العضلية والقوى الشهوية والغضبية ...وهذه القوى مشتركةً تأتمر بالعقل العملي التابع للمدركات الحصولية أو الحضورية، لأن من خاصية القوة العقلية العملية هو الإدراك المحرك لبقية القوى العملية، نظير ما يدركه الإنسان من حسن فضيلة معينة ويتشوق إليها فيمارسها ويعزم عليها ويوطن نفسه على تطبيقها، فسلوكه العملي تابع لإدراكه لحسن تلك الفضيلة، وفي المقابل قد يستنكر رذيلة من الرذائل وينفر منها ويشحن نفسه بالنفرة منها، فيوطن نفسه في سلوكه العملي على الإنقطاع عن تلك الرذيلة، فالإنقطاع سلوك عملي تابع لإدراكه قبح تلك الرذيلة ... فالعقل العملي يعتبر محركاً عملياً إلا أن فيه جنبة إدراكية، وهذه الجنبة الإدراكية قد تكون حصولية وقد تكون حضورية.
*التلازم العقلي بين القوى العقلية والقوى العملية*
    لا بدَّ بحكمة العقل من وجود تلازم بين القوة العقلية المدركة وبين القوة العقلية العملية في النفس الإنسانية، فلا يمكن افتراض وجود إنسان يملك القوة الإدراكية من دون وجود قوة عملية تأتمر بأوامر العقل المحض.
  كما لا يمكن إفتراضُ وجود إنسان لديه القدرة العملية المحضة من دون وجود قوة مدركة إلا في المجانين المسلوبين من نعمة العقل الكامل وإنْ كان لديهم جنبة إدراكية ضعيفة تماماً كالحيوان المسلوب من نعمة الإدراك التام وإنْ كان لديها إدراكٌ ضعيفٌ.
  فوجود قوة عملية بلا إدراك أو إدراك بلا قوة عملية يعتبر فصلاً للإنسان عن حقيقته الإنسانية بل لا يصح تسميته إنساناً بالمعنى الصحيح للإنسان ... ذلك لأن الله تعالى فطر الإنسان على مزيج من القوى العملية والقوى الإدراكية، فلا أحادية في القوى، فالإنسان ليس مجموعةً من قوى إدراكية محضة فقط بل هو مجموع قوى متعددة في داخله، إلَّا أن العقل العملي حاكمٌ عليها شريطة أن يكون متأدباً بآداب الشرع المبين ومتخلقاً بأخلاق النبيين ... فالإنسان ليس كالحيوان تقوى فيه الجنبة العملية العضلية وتضعف فيه الجنبة الإدراكية، فإننا نشاهد بوضوح بعض الصفات العملية الموزعة في الحيوانات بشكل رائع وفريد فمثلاً: نجد الحرص على العمل والتنظيم الإدراي في النمل، ونجد التنظيم الصناعي في النحل، والوفاء في الكلب، والغيرة في الديك، وعدمها في الخنزير ... وكأن هذه الصفات العملية قد وزعها الله تعالى على كثيرٍ من الحيوانات لتكون عبرةً للإنسان وزجراً له عن الاعتقاد بعبثية خلق الإنسان وخلوه من الإدراكات العملية التي لا يخلو منها مخلوقٌ على وجه الأرض ... ومن يتتبع حياة بعض الحيوانات سوف يرى في كلِّ حيوانٍ صفةً معينة تميزه عن غيره من بقية الحيوانات المفطورة على بعض القوى العملية أو العمَّالية لتكون مورداً لإعتبار الإنسان الذي سوف يُحشر على حسب صفته التي تتصف بها نفسه من فضائل أو رذائل، بمقتضى قوله تعالى في سورة ياسين: (ومسخناهم على مكانتهم) والحديث المشهور (يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة).
  والحاصل: ليس من الصواب القول بأن الفطرة الإنسانية مقتصرة  على جانب الإدراكي المحض ولا على الجانب العملي المحض، بل هما جناحان مترابطان ممتزجان لا يمكن إنفكاك أحدهما عن الآخر ولا يُفصل بينهما في صقع النفس الإنسانية، وإذا وجِدَ في بعض الناس مَنْ يغلب عليه الجنبة الإدراكية على الجنبة العملية أو طغيان الجنبة العملية على الجنبة الإدراكية فلا بد أن يكون ذلك إختلالاً في النظام البنيوي في الفطرة الإنسانية مما يعني عدم التوازن والتكامل في الشخصية الإنسية وهو ما رفضته آيات الكتاب الكريم (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) (ولقد كرَّمنا بني آدم...) فدعوى أن الإنسان مجموعة إدراكات عقلية خالية من القوى العملية والإحساس البشري ـ سواء كانت تلك القوى سلبية أم إيجابية ـ تبقى مجرد تقوّل على الذات الإنسانية المفطورة على الإدراكات العقلية والقوى العملية، وهو ما دل عليه الوجدان والشعور الإنساني الذي تغلب عليه الشهوة تارةً والعاطفة تارةً أخرى، وهو أمر لا تخلو منه حتى الحيوانات المفطورة على القوة العمَّالية دون القوة الإدراكية، والمنكر لهذه الحقيقة يدخل في خانة السفسطائيين المنكرين للحقائق الفطرية والحسيات الضرورية .
  والتشكيك في مفهوم البكاء على مصائب أهل البيت عليهم السلام يندرج في خانة الفكر السفسطائي الذي لا يعجبه شيء من مفاهيم الولاية والبراءة، فشككوا في قدسية شعائرهم وتفريغها من المحتوى الإدراكي والعملي، فألصقوا في البكاء ـ الذي يعد من أهم شعائر البراءة من أعداء آل محمد عليهم السلام ـ بعض الصفات السلبية الناقصة نظير ما يشاع بأن الباكي على المصائب: إنهزامي ـ متعصب ـ متهور ـ جبان ـ أحمق ـ رجعي، وغير صبور ... إلى ما هناك من صفات سلبية لردعه عن البكاء وإقامة العزاء على مصائب سادة العباد وقادة البلاد من آل محمد عليهم السلام ...
  إن هذا الإفتراء من قبل المشككين في البكاء، نعتبره نكايةً وجرأةً على تقديس الشخصيات المعصومة والبكاء على ما أصابها، فاعتبروا أن البكاء على تلك الذوات المطهرة حالةٌ غير صحيحة، فصار مفهوم الصحة والفساد والصلاح والتقوى على طبق موازينهم ووفقاً لمداركهم، فما توافق معها كان بنظرهم صحيحاً ومطابقاً لموازين الشرع وإلا كان خلاف الشرع وضوابط العقل الرشيد ... فلا الشعائر الحزينة تعجبهم ولا مفهوم التبري من أعداء آل محمد يعجبهم ... ولا تقديس الذوات الطاهرة يعجبهم ولا ذكر ظلاماتهم وإحياء العزاء لأجلهم يعجبهم ... نعم يعجبهم كل ما يوحّد الأمة بين فرقها ومذاهبها وتقديس زعمائها وقادتها ... وآخر صرعاتهم التكفيرية هي ما نفثه أسد قصير حيث غالى بالخميني، فجعله أفضل من أنبياء بني إسرائيل، قاتله الله من ناصبي جهول وبتري عنود... وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.
  (النقطة الثانية): تعريف البكاء في اللغة والاصطلاح الشرعي:
     قبل تفصيل هذه النقطة، لا بدَّ لنا من إثارة السؤال التالي: لماذا كلُّ هذا التشكيك في تقديس رموز القداسة والشرف والطهارة من آل محمد؟ ولماذا كلّ هذا الضجيج والعجيج حول البكاء على مصائب رموز القداسة والطهارة وإقامة العزاء على شهاداتهم وما جرى عليهم من كوارث وظلامات ومصائب...؟!
  الجواب: إن تيار البترية الحديثة اليوم لا يفتر عن الجمع والتوفيق بين المدرسة العلوية الفاطمية (على صاحبيها آلاف السلام والتحية) - هذه المدرسة المقدَّسة التي وقفت دوماً أمام جبروت الطواغيت من صحابة النبي المنافقين والنواصب المعاندين - وبين المدرسة العمرية البكرية التي وقفت ولا يزال أتباعها يقفون في وجه الخط العلوي الفاطمي.. لا لشيءٍ سوة الكره والعداوة لمولاتنا الصدّيقة الكبرى مولاتنا فاطمة الزهراء(عليها السلام) وبعلها أمير المؤمنين علي وأولادهما الطيبين الطاهرين عليهم السلام ...!.
   وسبب الكره يعود إلى الجاهلية الأولى التي عاشوها لتحرك فيهم العصبية الباطلة وطمس الحق والعدل والإباء ... بالإضافة إلى الحقد الدفين الذي حمله أعمدة السقيفة ضد البيت العلوي الفاطمي ... وقد أسس الأوائل للأواخر ركائز من القواعد التشكيكية ضد رموز القداسة في الحقبة الأولى من عصر النص - عنيت بهم أهل الكساء الخمسة - وأهم ركيزة تشكيكة للوقوف بوجه المد الفاطمي العلوي هي التشكيك بعنصر البراءة من أعداء آل محمد عليهم السلام... والبراءة من أعدائهم مفهوم ذو مراتب متعددة كالبكاء وإقامة العزاء والتفجع والحزن واللطم واللدم والتطبير والتطيين ولبس السواد وذكر الظلامات والتطرق إلى مثالب الأعداء والقدح فيهم واللعن عليهم..إلخ، كما وصل التشكيك إلى ذكر المعاجز والكرامات، وجلُّ اهتمامهم يتركز على الظلامات ومراسم الحداد...!.
*الهجوم الممنهج على الحالة الولائية*
   لقد توزعت أدوار الحركة البترية الناصبية التشكيكية في عصرنا الحالي للقضاء على الحالة الولائية من خلال نوعين من الهجوم هما:
  (النوع الأول): التشكيك برموز الحالة الولائية من خلال التشكيك بقدسية رموز الحالة الولائية، ليسهل نيلهم على ما يبتغون من تفكيك القاعدة الشعبية الموالية لتلك الرموز المقدَّسة، فساووها ببقية الناس بدعوى أن الرموز المقدَّسة من أهل البيت عليهم السلام هم بشرٌ لا يتميزون عن غيرهم من بقية الناس، فمن هنا شككوا بالعصمة والإمامة الإلهية والمعاجز والكرامات والمقامات والأسرار الغيبية لتلك الذوات الطاهرة، فقاموا بتسطيح الإمامة الإلهية ومتفرعاتها وأنها مقامٌ سياسي، والنزاع بين أعمدة السقيفة وأعمدة البيت الهاشمي: إنما كان لأجل السلطة لا غير...وهو ما أفصح عنه صريحاً البتريان اللبنانيان هما: محمد حسين فضل الله وعلي الأمين، ثم تبعهما بعضُ الأذناب الموتورين كأسد قصير وياسر عودة وولدي فضل الله....!.
  (النوع الثاني): التشكيك في المفاهيم البرائتية المدلول عليها بالكتاب والسنة المطهرة الكاشفين عن المواقف السلبية للنبيّ وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام اتجاه الرموز الكبرى لأعمدة السقيفة كأبي بكر وعمر وعائشة على وجه الخصوص لما تمتاز به هذه المرأة من دهاء ومكر من ناحية، ولما تمتاز به من حقدٍ كبير على أمير المؤمنين علي وزوجته الطاهرة سيِّدة نساء العالمين مولاتنا فاطمة الزهراء عليهما السلام من ناحية أخرى، ولما في التمسك بعائشة (باعتبارها زوجةً للنبي) من اعتبارات كبرى تسهل لهم النيل من خط البراءة بشكل عام وتقويض معالم البراءة من الأساس، من  جهة ثالثة ... 
       وبعبارة أُخرى: إن أعظم مدخل لهدم مفهوم البراءة هو البدء بترويج براءة أصحاب السقيفة من أيِّ ظلم ارتكبوه بحق آل محمد عليهم السلام، وبالتالي فلا خلاف ونزاع وخصومة بين آل محمد وبين أعمدة السقيفة.   
   وهذه التبرأة لأولئك اللئام لعنهم الله تعالى تستلزم نسف عامة الأخبار القطعية الصدور والإجماعات المتسالم عليها بين الأعلام والسيرة القطعية الدالة على وجوب البراءة من أعداء آل محمد وعلى رأسهم أعمدة السقيفة.
  وكلا النوعين من الهجوم التشكيكي يجمعهما شيءٌ واحدٌ هو التشكيك بظاهرة التقديس لرموز الولاية والبراءة منذ رحيل النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى غياب إمامنا المعظم الحجة القائم عليه السلام ثم تشعب التشكيك إلى المفاهيم الولايتية والبراءتية عبر الأحزاب البترية المنتشرة في الوسط الشيعي... كل ذلك تحت ذريعة التحرر الحضاري والإنفتاح الفكري على الفرق والمذاهب المبتدعة، لأن التقديس والقدسية والتعظيم لأيَّة شخصية كما يدَّعون - سواء كانت معصومةً أو لا - هو حجاب يمنع من الانفتاح الثقافي على الشعوب والقوميات ويؤدي إلى وقوع النفس في مجاهيل الماضي - بحسب تعبيرهم - ويرددون دوماً قوله تعالى (تلك أُمَّة لها قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون) ؛ فلماذا الماضي والبحث فيه؟ ولماذا البكاء وإقامة العزاء على شخصيات مضى عليها الزمن وعفا...؟ ولماذا البحث في الخلافات المذهبية المفرقة بين المسلمين؟ ولماذا ولماذا...! 
   عودٌ على بدء:
  ولنعد إلى الموضوع الحيوي في النقطة الثانية حول تعريف البكاء ليكون المؤمن على بصيرةٍ بالهيكلية النفسية للبكاء، وهل هو حالة مَرَضية عند الباكي أو أنه حالة صحية في النفس الإنسانية ... وهل أن البكاء ناشيء من المدارك العقلية أو أنه من الجناح العاطفي للنفس الطبيعية سواء أكانت انساناً أم حيواناً ... فنقول:
  البكاء لغةً هو: سيلان الدمع ألماً أو حزناً أو تأثراً، قال الطريحي: وبكى ـ يبكي ـ بكىً وبكاءً، بالقصر والمدّ، قيل: البكاء بالقصر مع خروج الدموع، والمدّ على إرادة الصوت.
قال الجوهري: البكاء يُمدَّ ويُقصر، فإذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرت: أردت الدموع وخروجها.
وقال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن: بكى يبكي بُكاً وبُكاءً، فالبكاء بالمدِّ سيلان الدمع عن حزن وعويلٍ، يقال إذا كان الصوت أغلب كالرغاء والثغاء وسائر هذه الأبنية الموضوعة للصوت، وبالقصر يقال إذا كان الحزن أغلب، وبُكيّ يقال في الحزن وإسالة الدمع معاً، ويقال في كل واحدٍ منهما منفرداً عن الآخر ... انتهى.
  والحاصل: إن البكاء تارةً يكون دمعاً مع الصوت كالصراخ والأنين والتأوه، وأخرى ما لا يكون معه صوت بل هو مجرد دمع فقط.
  والثاني هو المقصود في كلمات اللغويين أي أن البكاء هو ما فيه خروج الدمع، وإلا فلا يصدق البكاء عرفاً على الصوت من دون اقترانه بالدمعن بل هو تباكي، ويدخل في مفهوم الحزن.
  والظاهر أن البكاء مقترن بخروج الدمع كما هو واضح في لسان الأخبار الشريفة نظير قولهم عليهم السلام في البكاء على الإمام الحسين عليه السلام: "ابكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا".
فإن ظاهر البكاء هو خروج الدمع، وذلك لوجود تغاير بين البكاء والتباكي الذي بمعنى تكلّف البكاء ... فبقرينة التباكي يتضح الفرق بين البكاء المأخوذ فيه خروج الدمع وبين التباكي الخالي من الدمع، فالبكاء مقيّد بالإسناد إلى العين لغةً وعرفاً، بخلاف التباكي فإنه لا يشترط في تحققه خروج الدمع من العين، ويؤيد الفرق بين البكاء والتباكي ما ورد في الأخبار الكاشفة عن أن البكائين خمسة كما في الخصال للصدوق، فإن بكاء الخمسة البكائيين كان مقترناً بجريان الدمع من عيونهم، ولم يكن بكاؤهم مجرد الحزن والتأثر فقط.
    وبهذا يندفع ما ذكره أحد الباحثين حول البكاء مدعياً بأن البكاء عند علماء الأخلاق والحكماء هو «حالة انفعال في الجناح العملي للنفس وهو ما يسمى بتأثر الضمير والوجدان سواء خرج الدمع أم لا، مع الصيحة أو بدونها...»، وهو اشتباه محض حسبما قدَّمنا لكم آنفاً، مضافاً إلى أن مجرد الحزن من دون خروج الدمع من العين لا يصدق عليه عرفاً أنه بكاء بل هو حزن محض، فليس كلُّ حزنٍ بكاء مع أن كلَّ بكاء هو حزن، فبينهما عموم وخصوص من وجه ... فليس كلُّ حزين بكَّاء، بينما كل بكّاء هو حزين؛ فقد يحزن المرء ولا يبكي، بينما لا يبكي إلا الحزين، أي أن الباكي إنما يبكي بسبب حزنه...وفي بعض الأحيان لا يبكي الحزين، وبينهما بون شاسع، يرجى التأمل.
   (النقطة الثالثة): أهم الإشكالات على ظاهرة البكاء على مصائب الأئمة الأحباء عليهم السلام.
    ثمة إشكالات واعتراضات من قبل البتريين والنواصب على ظاهرة البكاء على مصائب آل الله عليهم السلام، وهي تتمحور حول وجوهٍ استحسانية قائمة على التظني والعمل بالقياس، لا بدَّ لنا من استعراضها والجواب عليها بالتفصيل باعتبارها من التقول على أخبار آل محمد (سلام الله عليهم ) بالكذب والإفتراء، لأننا مأمورون ببيان الحق ودحض الباطل، لأن الله تعالى ذكره قد خصَّ طائفتنا المحقَّة باقتفاء الصدق واتباع الحق لتلقي الأحكام عن رؤساء الدين من أهل البيت عليهم السلام الذين أمروا بأخذ الأحكام في غيبة قائمهم أرواحنا له الفداء من رواتهم المخلصين المتربصين للمنافقين على الثغر الذي يلي إبليس وجنوده، فهم معتمدون على التحقيق ، مستندون إلى الذكر الوثيق ، لا يلوون على قائلٍ بظنه ، شارعٍ برأيه ، يقول على الله ما لا يعلم ، ويفتي بالوهم ، وساء ما يتوهم ، ولما تعددت التبع وتشعبت الأهواء وظهرت البدع ، وأقام كلُّ فريق رأساً ، يقتدون ببدعته ، ويتعبدون بشرعته ، وجب أن ينشر أهل الحق ما علموه ، ويظهروا ما كتموه ، على قاعدة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله:« إذا ظهرت البدع في أُمتي، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله ».
  من هنا وجب علينا ـ ونحن مسؤولون عن ذلك شرعاً وعقلاً وعرفاً ـ دفعُ الشبهةِ بالدليلِ والبرهان حولَ ما يثار بين الفينة والأخرى من شكوكٍ واعتراضات على ظاهرة البكاء وغيرها من مفاهيم البراءة من الأعداء، فهناك عدّة نظريات منكوسة وآراء منحوسة مخالفة لظاهرة البكاء تعتمد على وجوهٍ تشكيكية عديدة ، هي في الواقع اعتراضات، أهمها التالي:
  (الإعتراض الأوّل على البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام): إنّ أدلة وروايات البكاء تشتمل على مضامين لا يقبلها العقل، مثل:« أنّ مَن بَكى ودَمِعَت عيناه بقَدر جَناح ذُبابة ، غُفَر له كلّ ذنوبه » فهذه الروايات – بحسب تعبيرهم - مضمونها إسرائيليّ  شبيه لما لدى النصارى من أنّ المسيح عليه السلام قُتِل لتُغفر ذنوب أُمّته، فإن روايات البكاء على مصائب أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام فيها ما يشابه هذا المضمون من أنّ الإمام سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام قُتل ليُكفِّر عن ذنوب شيعته إلى يوم القيامة ، فهي - بزعم هؤلاء - إغراءٌ بالذنوب وإغراء بالمعاصي، فلا يمكن العمل بهذه الروايات، لأنّ فيها نفس الإغراء الموجود في الفكر المسيحيّ واليهوديّ القائم على البكاء والحزن، وبالتالي فإن مضمون هذه الروايات لا يقبلها العقل ولا يصدّقها، وهو مضمون دخيل على الإسلام والتشيع كما عبّروا . . وهذا الوجه الذي اعتمده هؤلاء المنافقون يتألّف من أمرين لا ثالث لهما :
الأول : ضعف أسانيد هذه الروايات . .
الثاني : ضعف مضمون روايات البكاء ، لاشتماله على الإغراء بالباطل والمعصية، وذلك لأن ذكر الثواب في البكاء على الإمام الحسين عليه السلام فيه اتكاء على البكاء لغفران الذنوب، ويستشهدون على مدعاهم بأن كثيراً من العوام يرتكبون المعاصي بحجة أن البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام والمشاركة الفعالة في إحياء الشعائر الحسينية المقدَّسة يكّفر لهم عن خطاياهم ومعاصيهم، لذا يسترسلون بارتكاب المعاصي اعتماداً منهم على البكاء، وبالتالي يصبح مضمون البكاء أو بقية الشعائر باطلاً للنكتة التي ادعوها.
  والجواب عن الأمر الأول بأربعة وجوهٍ هي الآتي:
  (الوجه الأول): إن دعوى ضعف السند في روايات البكاء على مصائب السادة الشهداء عليهم السلام غير صحيحة على الإطلاق، بل هي محض كذبٍ وافتراء للتمهيد إلى نسفها من أساسها تحت عنوان ضعف الأسانيد في روايات البكاء، فقد ذكر المحدّث الجليل أبو جعفر بن محمد بن قولويه القمي رحمه الله المتوفى عام 368هجري في كتابه القيّم الموسوم بـ« كامل الزيارات » ما يفوق المأة رواية حول فضيلة البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام، وهي روايات صحيحة الأسانيد وعالية وموثقة ولا مغمز فيها على الإطلاق، ومصنف الكتاب من أعاظم المحدثين الثقات الأجلاء في الطائفة الشيعية المحقة، وكتابه الجليل من أهم المصادر الشيعية حول المراسم الحسينية البكائية على صاحبها آلاف السلام والتحية، وهي أخبار فاقت التواتر بعشرات المرات، كما أنّ المحدّث المجلسي رحمه الله قد ذكر في كتابه بحار الأنوار ما لا يقل عن خمسين رواية في فضل واستحباب البكاء على الإمام الحسين عليه السلام، وهذه الروايات الخمسون ، مما جمعها صاحب البحار هي غير الروايات العشرين التي جمعها صاحب الوسائل وهي غير الروايات المتناثرة التي تربو على العشرات في الأبواب الأخرى، فكيف يا تُرى نردّ هذه الروايات بالرغم من كثرتها وتعدد أسانيدها وعلو مضامينها ؟! وبأيّ ميزان درائيّ ورجالي نشكّك فيها..؟! فدعوى ضعف أسانيد هذه الروايات ناتج من عدم الإيمان بأخبار آل محمد عليهم السلام كما أوضحنا ذلك في الفصل الأول حول معالم البترية الحديثة من كتابنا الجديد:« الحقيقة الغراء في تفضيل الصدّيقة الكبرى زينب الحوراء على مريم العذراء عليهما السلام »، أو ربَّما يكون طرحها ناتجاً من ضعف الانتباه عند أصحابها بناءً على حمل النافين لها على الأحسن وإن كنا لا نحسن الظن بواحدٍ منهم على الإطلاق وذلك لوجود خلفيات عمرية خلف طرحهم المشؤوم، أو يكون الطرح من باب ضعف الحيطة العلميّة للأخبار والآيات الكاشفة عن بكاء الأنبياء والأولياء عليهم السلام على الأحباب ، ذلك لأنّ  المتصفّح في المصادر المعتبرة الحديثيّة ـ ولو بتصفح قليل ـ تحصل عنده القناعة التامة واليقين الكامل بوجود أسانيد كثيرة جدّاً في روايات البكاء ، منها الصحيح ، ومنها الموثّق ، ومنها المعتبر ، فضلا عن كونها متواترة بل فاقت التواتر بعشرات المرات.
 (الوجه الثاني): لو سلَّمنا جدلاً - وفرض المحال ليس محالاً - بأن روايات البكاء على مصائب السادة العظماء عليهم السلام ضعيفة الأسانيد، مع أنها ليست كذلك كما أشرنا في الوجه الأول، فإنه قد ثبت في علم الأصول بأن روايات الدعاء والمستحبات والحوادث التكوينية والتاريخ والملاحم والفتن لا تشملها أدلة حجية الخبر الواحد الثقة، بل يكفي في مضاميها أن تكون متوافقة مع الكتاب والسنَّة المطهرة، لأن دليل حجية الخبر الواحد خاصٌ بالفرعيات العملية الواجبة والإعتقادات الإيمانية في الأصول الخمسة وما عداهما خارج عن مورد البحث في الأسانيد، وذلك لعدم وجوبها اعتقاداً أو عملاً كمسألة البكاء على مصائب آل محمد عليهم السلام، نعم هي مستحبة كما فهمها المشهور من أعلام الإمامية، باعتبارها من أبرز مصاديق إحياء الشعائر الحسينية المقدَّسة التي دلت عليها النصوص الشريفة، فأفتوا باستحباب إحياء الشعائر الحسينية، إقحاماً لها في الفروع المستحبة، وإن كنا ندرجها في الأصول الإعتقادية البراءَتية الواجبة التي لا يجوز التخلي عنها والتقصير بحقها كما فصلنا ذلك في بحوث أخرى حول الشعائر الحسينية على صاحبها آلاف السلام والتحية، وبالتالي تكون مندرجةً في العناوين الخاصة والعامة لإحياء الشعائر المقدسة، وقد قامت الأدلة القوية على إثباتها وشرعيتها لموافقتها للكتاب والسنّة المتواترة والسيرة القطعية القائمة على إقامة مجالس البكاء على مصائب الأحباب من آل محمد سلام الله عليهم.
   (الوجه الثالث):على فرض ضعف أسانيد روايات البكاء فإنها مجبورة بعمل المشهور بها، بمعنى أن عملهم بها  جابر لضعفها، وكما قال صاحب الكفاية رحمه الله:« إن الخبر الضعيف وإن لم يكن حجَّةً في نفسه إلا أن عمل المشهور به يوجب الوثوق بصدوره ويدخل بذلك في موضوع الحجية..» وسواء كان الوثوق شخصياً أو نوعياً فإنه حجةٌ على من علم به وذلك لبناء العقلاء الدال على حجية الإطمئنان الشخصي - باعتباره علماً عادياً - فضلاً عن النوعي في إثبات الموارد الفرعية الواجبة والمستحبة نظير استحباب البكاء على مصائب آل الله عليهم السلام ، لذا لا تشملهما أدلة المنع عن العمل بالظن... فعمل المشهور بالخبر الضعيف سنداً بمثابة توثيق نوعي للخبر فلا مجال لترك العمل به.
وقال المحقق النائيني رحمه الله معلقاً على الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور:« إن الوجه في ذلك هو أنّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور حجّةٌ بمقتضى منطوق آية النبأ ، إذ مفاده حجّية خبر الفاسق مع التبين ، وعمل المشهور من التبين ».
 (الوجه الرابع): لقد ثبت في علم أُصول الفقه الجعفري بأن الحجية في توثيقات المتقدِّمين والمتأخرين من الفقهاء والرجاليين إنما هي في الخبر الموثوق بصدوره عن المعصوم عليه السلام وليست الحجية في خصوص الخبر الثقة، وبينهما فرقٌ واضح، إذ لو اقتصرنا على كون الحجية في قول الثقة فقط يكون المناط وثاقة الراوي وإن لم يكن نفس الخبر موثوقاً بصدوره عن المعصوم عليه السلام وهو أمر باطل باتفاق المحصلين من علماء الإمامية لأن العبرة بمضمون الخبر لا في وثاقة السند، من هنا عملوا بالأخبار المرسلة التي دلت القرائن على صحتها لموافقتها للكتاب والسنّة، ولا ملازمة بين وثاقة الراوي وبين كونه موثوقاً بصدوره عن المعصوم عليه السلام، بل ربما يكون الراوي ثقةً ولكنَّ القرائن والأمارات القطعية تشهد على عدم صدور الخبر من المعصوم عليه السلام وأن الثقة قد التبس عليه الأمر أو أن الخبر لم يكن صادراً عن المعصوم عليه السلام أو أنه صدر عنه تقية، فلا بدَّ للفقيه من التمييز بين الخبر الموثوق وبين الخبر الثقة، فيبحث في القرائن والأمارات الدالة على صدق الخبر مهما كان شكله ونوعه ما دامت الأدلة قد دلت على التثبت من مضمون الخبر ولم تولِ أهمية كبرى للخبر بما هو خبر مروي بسندٍ مهما كان قوياً من الحيثية الروائية....وقد جرت سيرة العقلاء على العمل بالخبر الموثوق الصدور وإن لم تحرز وثاقة الراوي أو المخبر لأن وثاقة المخبر طريقٌ إلى إحراز صدق الخبر، ولم يأمر الشارع المقدس بالأخذ بخبر الثقة على نحو التعبد الصرف، بل إن أدلة حجية الخبر الواحد الثقة كآية النبأ وغيرها من الأخبار الدالة على الأخذ بأخبار الثقات لم تقتصر أدلتها على التعبد الصرف في وجوب التمسك بخبر الثقة وإنما كشفت لنا على وجوب التثبت من الأخبار حتى من أخبار الفساق فإنْ تبيّن للفاحص بأن الفاسق كان صادقاً في إخبارته فإن الأدلة لم تنهَ عن الأخذ بما أخبر عنه الفاسق بل أمرت بالتثبت من صحة إخباراته بمقتضى قوله تعالى « يا أيها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أنْ تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» فإن الآية أمرت بالتبيّن من صحة أخبار الفساق ولم تلغِ بالكلية إخباراتهم، فما وافق القرائن يجب الأخذ به وإلا فلا...فالآية الكريمة أمرت بلزوم التثبت والتوقف حتى يتبين الحال، فإذا تبيّن وانكشف الواقع انكشافاً عقلائياً بحيث يركن إليه العقلاء يجب الركون إليه والاعتماد عليه.
ومن هذا المنطلق؛ يجب أن نعالج أخبار البكاء التي ادعى المشكّكون البتريون ضعفَ أسانيدها، فإن القرائن من الكتاب والسنَّة تشهد بصحتها، فلا يجوز - والحال هذه - رميها بالضعف ما دامت القرائن تشهد عليها بالصحة والموافقة للكتاب والسنة المتواترة، وبطبيعة الحال حينئذٍ لا يجوز رميها بالضعف.
والجواب عن الأمر الثاني بالوجوه التالية:
  (الوجه الأول): إن مضمون أخبار البكاء على مصائب آل الله عليهم السلام ليس فيه شيءٌ من الإغراء بالمعاصي كما ادَّعاه هؤلاء المشككون وإلا لكان نظيره الوارد في القرآن الكريم والسنَّة المتواترة مغرياً أيضاً لأنه يستلزم الإتكاء على البكاء من خشية الله تعالى أو تشوقاً إلى الحور والجنان وفقدان الأحباء، أو أن الوعد بالثواب واجتناب الكبائر تكّفر الصغار من الذنوب، وقد ورد ذلك في موارد عديدة في الشريعة ، وهي موارد مسلّمة، نظير قوله تعالى : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُم ) فهل هذا إغراء بالصغائر؟! وهل أن عدم الشرك بالله تعالى يغري المكلّف بارتكاب العظام من الجرائر كما في قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) كلا ثم كلا !. 
يُضاف إلى ذلك روايات عديدة أخرى وردت من طرق العامّة والخاصّة في ثواب البكاء من خشية الله ، منها :
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن خرج من عينيه مثل الذباب من الدمع من خشية الله آمنه اللهُ يومَ الفزع الأكبر » . فهل أن البكاء من خشية الله تعالى يبيح للباكي أن يرتكب الجرائر...؟!
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « مَن بكى على ذنبه حتّى تسيل دموعه على لحيته حرّم الله ديباجة وجهه على النار ». فهل هذا إغراء لارتكاب المعاصي والذنوب ؟ ! وكذلك ورد في ثواب الحجّ والصلاة المفترضة والصوم وغيرها من الثواب العظيم وغفران الذنوب، ولا ملازمة بينها وبين الإغراء بالذنوب والمعاصي، فليس لسانها إباحة ارتكاب الذنوب ما دام المؤمن مصلياً وصائما وحاجاً...! كلا ثم كلا !.
  (الوجه الثاني): إن الترغيب في البكاء من خشية الله تعالى أو الوعد بتكفير الصغائر في مقابل الإتقاء من الكبائر الوارد في الآيات والأخبار إنما هو ترغيب في نفس العمل لا أنّه إغراء بترك العمل وارتكاب المحذورات  والمضادّات . .بل هو باب لفتح باب التوبة وعدم اليأس من رحمة الله تعالى .
  بالإضافة إلى ذلك: إنّ البكاء من خشية الله إنّما يكون من باب المقتضي للتكفير عن الصغائر أو لغفران الذنوب وليس من باب العلّة التامّة، أي: أنّ هناك أموراً وشرائط أخرى لا بدّ من توفّرها مع المقتضي من قبيل عدم الإصرار على الصغائر والعزم والتصميم على الإقلاع عن المعصية وغير ذلك . . فإذا تمّت جميع هذه المقدّمات وتوفّر المقتضي تتحقق العلّة التامة للتكفير أو للمغفرة . . لذلك تعدُّ هذه الأمور من باب المقتضي - وهو جزء العلة التامة - وليست علّةً تامة، مع التأكيد على أن معنى قوله تعالى في آية ( إِنْ تَجْتَنِبُوا . . . ) هو تكفير الذنوب السابقة وليس الذنوب الآتية في المستقبل . . والذي يرتكب الذنوب في المستقبل قد لا يوفق إلى مثل هذا التكفير والغُفران . . وهذا نظير ما ورد في باب الحجّ : أنّ مَن حجّ يُقال له بعد رجوعه استأنف العمل ، أو أنّه يرجع كما ولدته أمّه ، ويُغفر لما سبق من ذنوبه . . فهذا ليس إغراءً بالجهل وبالذنوب  بل المقصود أنّ هذه مقتضيات لا أنّها تحدّد المصير النهائيّ - والعاقبة النهائية .
      وقد ورد في بعض الروايات : أن مَن مات على الولاية ، يَشْفَع ويشَفَّع . . لكن من يضمن أنّه يموت على الولاية إذا كان مرتكباً للذنوب والكبائر وموطناً نفسه على ذلك...! فليست ولاية أهل البيت عليهم السلام مُغرية للوقوع في الذنوب والمعاصي . . إذ إنّ ارتكاب المعاصي يُؤدي إلى فقدان أعظم حبل للنجاة ، وهو العقيدة المستقيمة والولاء الصحيح المتضمن للبراءة من أعداء أهل البيت عليهم السلام، وأن ارتكاب المعاصي يؤدّي أيضاً إلى ضياع الإيمان ، حيث قال تعالى : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوء أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ )  حيث إنّ مجموع الدين يعتبر كتلة واحدة ، ولا ننظر إلى الدين من جهة دون أخرى . . وإذا كان تمام الأدّلة الدينيّة تشير إلى أن ارتكاب المعاصي والإصرار عليها يُؤدّي إلى فقدان الإيمان والمآل إلى سوء العاقبة - والعياذ بالله تعالى - فليس فيها جانب إغراء ، بل فيها إشارة إلى جهة معيّنة ، وهي أنها تخلّص الإنسان وتنقذه من حضيض المعاصي والرذائل وتَعرُج به إلى سمو الفضائل وجادّة الصواب والصراط المستقيم، فإنّ التفاعل العاطفيّ مع أحداث عاشوراء لا يكون منفراً من أعداء أهل البيت عليهم السلام فحسب، بل هو أيضاً منفّر من السلوكيّات المنحرفة المبتلى بها ، وتتولّد في أعماق الشخص المتأثّر بما جرى على سيِّد الشهداء عليه السلام وغيره من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام من مصائب وأحزان وهموم وأنكاد... حالةً من تأنيب الضمير لذلك أو الحزن على ما أصابهم ; فهو يجسّد في نفسه الصراع والجهاد . . فإذا عرضت له أشكالٌ من المعصية كأنّما يتحرّك عنده هاجس الحرارة الحسينيّة وتنشأ في روحه وخزة تأنيب الضمير  متمنياً الكون معهم والدفاع عنهم والموت في سبيلهم،  فهذا نوع من الإنجذاب القلبيّ والعزم الإراديّ نحو الصراط المستقيم المتمثل بىل محمد عليهم السلام، وبالتالي ليس مفاد روايات البكاء أنّ من بكى على الإمام الحسين عليه السلام فله الضمان في حسن العاقبة ، وله النتيجة النهائية في الصلاح والفلاح...كلا ثم كلا، ليس مفادها ذلك، وإنّما مفادها هو : أن مَن بكى على الإمام الحسين عليه السلام غُفرت له ذنوبه السابقة ولا علاقة للبكاء بغفران الذنوب اللاحقة، وهذا نظير الأخبار الدالة على من أدَّى فريضة الحجّ حيث تغفر ذنوب الحاج السابقة ولا دلالة فيها على غفران الذنوب اللاحقة كما أشرنا آنفاً؛ وبالتالي فإن غفران الذنوب مشروط بالموافاة، والموافاة اصطلاح كلاميّ وروائيّ . . أي أن يوافي الإنسان خاتمة أجره بحُسن العاقبة، وإلا فمع سوء العاقبة - والعياذ بالله تعالى ترجع عليه السيئات فتُحبط عنه الحسنات ولا تُكتب له أصلاً . 
فليس في منطق هذه الروايات إغراء بالمعاصي ، وليست في رواياتنا ما يشبه عقيدة النصارى القائلين بأنّ المسيح عليه السلام قد قُتل ليغفر للنصارى جميعاً . . حتّى وإن تعمدوا العمل بالمعاصي والكبائر وأنواع الظلم والعدوان . . ولا تشبه أيضاً عقيدة اليهود الذين قالوا أنّ عُزيراً أو غيره له هذه القابليّة على محو المعاصي والكبائر عن قومه، وإلا لأشكل علينا بأننا كاليهود والنصارى وأنّ قرآننا توجد فيه اسرائيليّات، فمنطق الآية : ( إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ . . . ) يختلف عن ذاك المنطق الذي يُنادي به النصارى ، أولئك يقولون : نعمل ما نشاء والعاقبة ستُختم لنا بالحُسنى،  فأين هذا عن المعنى الذي نحن بصدده ؟
   إن مضمون روايات « أن يُغفَر له ولو كان كزبد البحر »، مخالفٌ لذلك المعنى الذي يعتقد به اليهود والنصارى، بل إن مضمون غفران الذنوب للباكي على مصائب سيّد الشهداء عليه السلام، فيه نوع من إدانة للمذنبين وحزناً على ما أصاب ذاك الإمام المبين ، إضافةً إلى فتح باب الأمل وعدم القنوط وعدم اليأس ، بل الأمل بروح الله أن ينجذب الإنسان إلى الصراط المستقيم وجانب الطاعات ولا يقع في طريق المعاصي ويتخبّط في الذنوب . .
  (الاعتراض الثاني على البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام) : 
   قال أصحاب هذا الإعتراض: بأننا نسلِّم بأن تكون روايات البكاء صحيحة سنداً ومتناً لكنَّ مضمونها غير أبديّ، وليس بدائم . . بل إن مضمونها هو الحثّ على البكاء في فترة الأئمة عليهم السلام ، وهي فترة وحقبة التقيّة، حيث كان الأسلوب الوحيد لإبراز المعارضة والاستنكار للظلم وإبراز التضامن مع أهل البيت عليهم السلام هو البكاء ، أمّا في يومنا هذا ، فالشيعة - ولله الحمد - يعيشون في جوّ من الحريّة النسبيّة . . فليست هذه الوسيلة صحيحة . .
كان الهدف من تشريع هذه الوسيلة والحثّ عليها حصول غرض معيّن ، وهو إبراز التضامن مع أهل البيت عليهم السلام أو التولّي لأهل البيت ، وإظهار الإستنكار والتبرّي من أعدائهم والمعارضة لخطّهم ، باعتبار أنّ الظرف كان ظرفَ تقيّةٍ، حيث كانت الأفواه مُكَمّمة، وكانت النفوس في معرض الخطر من الظالم، فقد يكون البكاء هو الأسلوب الوحيد آنذاك لإبداء المعارضة للظالمين والمستكبرين، أمّا في أيّامنا هذه وقد زال الخوف، فلا يكون البكاء أُسلوباً صحيحاً، لأن الغاية منه قد انتفت في هذه الأزمنة . . فتكون أشبه بالقضيّة الخارجيّة الظرفيّة ، لا القضيّة الحقيقيّة العامّة الدائمة، هذا الإعتراض قد سجله العلامة المجلسي رحمه الله نقلاً عن السيّد علي الحسيني في محاورة له مع بعض المنكرين للبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام، وقد وافقه المعلِّق على روايات البكاء في البحار ج 44 ص 293 . 
    الجواب من وجوهٍ هي التالي:
    (الوجه الأول): لقد أجبنا عن الإشكال في بعض كتبنا حول الشعائر الحسينية المقدَّسة منذ سنين إلا أننا نفصِّل في الإجابة ههنا فنقول: إن الدعوى القائلة بأن مورد روايات البكاء على مصائب سيّد الشهداء عليه السلام محمول على التقية، وعلى زمن الأئمة الطاهرين عليهم السلام... تبقى مجرد دعوى لا دليل عليها، بل العمومات والإطلاقات الآمرة بالبكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام من دون تخصيصٍ بزمان أو مكان، ومن دون التقييد بالقضية الخارجية، تكذّب الدعوى المذكورة، وذلك لعدم وجود قرائن تثبتها من قريب أو بعيد، فقول المعصوم عليه السلام « من بكى أو تباكى فله ثواب كذا ..» عام يشمل عصور الأئمة الطاهرين عليهم السلام وما بعدها، ولو كان المراد منها عصورهم فقط، لكان نصب لنا المعصوم عليه السلام قرينة تصرف البكاء إلى عصورهم دون غيرها من العصور...وحيث لا توجد قرينة صارفة، فلا بدَّ ـ والحال هذه ـ من إبقاء العموم على عمومه بحيث يشمل كلَّ العصور، ومَنْ يدّعي التقييد بعصور الأئمة الطاهرين عليهم السلام، يجب عليه أن يظهر لنا تلك القرينة القطعية الصارفة عن بقية عصورهم عليهم السلام حتى نناقشه فيها....!. والتقييد بالتظني محرّم باعتباره استحساناً نهت عنه أخبارنا الشريفة، والدعوى المذكورة مبتنية على الإستحسان ولا علاقة لها بالتقييدات الأخبارية التي أمرنا بها ائمتنا الطاهرون عليهم السلام، فمن ادعى التقييد، يجب أن يأتينا بقرينة أخبارية تدل على تقييد البكاء في عصورهم عليهم السلام فقط دون غيرها من العصور...والتقييد بما تهواه الأنفس مردُّه ضعف العقول وهو من صنع المخالفين، ونحن مأمورون شرعاً بمخالفتهم في قضايا الإستنباط للأحكام الفرعية، والدعوى الخالية من الدليل القرآني والأخباري، ليست من دأب المحصلين من أعلام الإمامية.
  (الوجه الثاني): إن ما ذكره الاعتراض من كون البكاء أحد الغايات لإظهار التولي لهم والبراءة من أعدائهم والاستنكار عليهم فلا غبار عليه ، لكنه ليس هو تمام غاية البكاء ، بل هو أحد الغايات والسُبل لإظهار الظلامة، ولماذا لا تكون هذه الغاية غير قابلة للتحقق في العصور اللاحقة لعهود الأئمة الطاهرين عليهم السلام، بل هي مستمرة قابلة للتحقّق، ذلك لأنّ البكاء في بعض نواحيه هو نوع من السلوك التربويّ لإثارة وجدان أبناء الفِرق الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين، وإلا لا يكفي إظهار النفرة من ظالمي أهل البيت والتبرّي من أعداء الدين الذين قادوا التحريف والانحراف في الأمّة الإسلاميّة بكلمات فكريّة أو إدراكيّة، فإنها جافة لا تحرك المشاعر للتعاطف مع المظلوم ونصرته والذود عنه. . والكلمات الخطابية قد تسبب ردّة فعل سلبيّة عندهم؛ أمّا أسلوب العاطفة الصادقة فهو أكثر إثارة ، وأنجح علاجاً لهداية الآخرين ، ذلك لأنّ الطبيعة الإنسانيّة مركّبة من نمطَين جِبلييّن : نظريّ إدراكيّ وعمليّ إنفعاليّ . .
  إشكال وحلّ:
   مفاد الإشكال: قلتم بأن البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام مستحب بحسب مشرب المشهور، فلماذا نهى الإمام الحسين « عليه السلام » عنه وعن اللطم اللطم بحسب ما روي من أن الإمام الحسين عليه السلام قد نهى النساء في ليلة العاشر من المحرم عن خمش الوجوه ، وعن لطمها ، وعن شق الجيوب . .فقد روى السيد ابن طاووس عن الإمام الحسين عليه السلام أنه قال لأخته العقيلة الحوراء زينب عليها السلام ـ عندما لطمت عليها السلام على وجهها وصاحت ـ: « مهلاً ، لا تشمتي القوم بنا . . ».
    والحل هو التالي: إن ما رواه ابن طاووس رحمه الله في اللهوف على قتلى الطفوف لم يروه مَنْ سبقه مِنَ المؤرخين، بل هو الوحيد الذي تفرد في نقله عن الإمام الحسين عليه السلام، مع كون ما رواه خبراً واحداً لا يسلم من النقود والاعتراضات من حيث نسبة الفعل المكروه أو الحرام ـ والعياذ بالله ـ لمولاتنا الصدّيقة الكبرى زينب الحوراء عليها السلام وهي المعصومة والمصونة عن الخطأ والخلل في الأفعال والأقوال، فإنها من أهل بيتٍ لا يُقاس بهم أحد من الخلق ـ وقد فصّلنا ذلك في كتابنا الجديد حول مقام سيّدتنا المعظمة الحوراء زينب عليها السلام (الحقيقة الغراء في تفضيل مولاتنا زينب الحوراء على مريم العذراء عليهما السلام ) ـ وبالتالي لا يصلح الخبر المذكور لان يكون ممسكاً للإعتراض على مسألة البكاء واللطم، ولكن لو سلّمنا بصحة ما رواه ابن طاووس رحمه الله عن الإمام الحسين عليه السلام، فإن النهي عن البكاء أو اللطم أو الصياح الوارد في الخبر محمول على وجهين:
 (الوجه الأول): إن النهي عن البكاء واللطم إنما هو نهيٌّ إرشاديٌّ وطريقيٌّ معنونٌ بالعنوان العرضي الثانوي، وهو دفع شماتة الأعداء بأهل البيت عليهم السلام بسبب البكاء واللطم قبل شهادة الإمام وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، وليس نهياً اصطلاحياً كراهتياً أو تحريمياً مبغوضاً عند الله تعالى وحججه الطاهرين عليهم السلام لا سيما عند الحوراء الطاهرة الزكية سلام الله عليها، فإن ذلك غير خفيٍّ على شخصها الكريم سلام الله عليها...كيف لا ! وهي المعصومة بالعصمة الذاتية والصدّيقة الكبرى بعد أمها سيّدة نساء العالمين عليها السلام... فإن حالها أجّلُّ وأكرم من أن تكون جاهلة بحكم الله تعالى فيما لو كان البكاء أو اللطم حراماً أو مكروهاً بعنوانه الأولي....
 (الوجه الثاني): أن نحمل النهي الوارد في الخبر ( لا تشمتي القوم بنا ) على بقية النسوة، طبقاً للقاعدة المعصومية:« إياكِ أعني واسمعي يا جارة »، ولا يراد منه نهي مولاتنا الحوراء زينب عليها السلام، فإنها ليست ممن تُنهى عن فعلٍ مكروهٍ أو حرامٍ، كيف ذلك ؟! وهي المعصومة المطهرة من كلّ دنسٍ ورجسٍ، بل الخطاب لها ولكنَّ المقصود به غيرها من النسوة الطاهرات اللاتي  غلب عليهن الصراخ والعويل ـ وحق لهن ذلك ـ فنهاهنَّ الإمام المعظَّم سيِّد الشهداء عليه السلام بصورة خطاب لأخته الطاهرة حتى لا تنكسر قلوبهن وهنَّ البكاءات عليه والمفجوعات على فراقه، فإن البكاء والصياح ينقص من قدرهنَّ كنساءٍ طاهراتٍ لسن كغيرهن من النساء، بل هنَّ خيرة النساء بعد نساء أهل البيت عليهم السلام، فيكون النهي عن القول بما يوجب الإنتقاص منهنَّ من قبل الأعداء لعنهم الله، فمورد النهي إنما هو على الأقوال المستوجبة لتهكم الأعداء عليهن وإنْ كان ـ الأعداء ـ يستحقون كلّ قذع في القول والتقريع والإزدراء بفعل ما جنوه من الظلم والحيف على العترة الطاهرة ...ويؤيده ما روي من أنه (أرواحنا له الفداء وعليه السلام) قد وجّه وصية لعامة النساء يوم عاشوراء في وداعه الثاني، قال الراوي:« ثمّ ودّع ( عليه السلام ) أهل بيته وأمرهم بالصبر ، ووعدهم بالثواب والأجر ، وأمرهم بلبس أُزرِهم، وقال لهم :« اسْتَعِدُّوا لِلْبَلاءِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الله تَعالى حافِظُكُمْ وَحاميكُم، وَسَيُنْجيكُمْ مِنْ شَرِّ الأَعْداءِ ، وَيَجْعَلُ عاقِبَةَ أَمْرِكُمْ إِلى خَيْر ، وَيُعَذِّبُ أَعاديكُمْ بِأَنْواعِ الْبَلاءِ ، وَيُعَوِّضُكُمُ اللهُ عَنْ هذِهِ البَلِيّةِ بِأَنْواعِ النِّعَمِ وَالْكَرامَةِ ،فَلا تَشْكُوا ، وَلا تَقُولُوا بِأَلْسِنَتِكُمْ ما يَنْقُصُ قَدْرَكُمْ ».
  فقوله عليه السلام: « فلا تَشْكوا ـ بتسكين الشين، وهو فعل مشتق من المصدر وهو الشكاية ـ ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم..»؛ واضح لا لبس فيه بأن مراده عليه السلام هو النسوة وليس خصوص مولاتنا الحوراء زينب عليها السلام...وعلى فرضنا أن المقصود كان أخته الحوراء زينب عليها السلام لأن نهيه عليه السلام لم يكن نهياً عن البكاء واللطم بل كان المراد منه الشكاية والقول بألسنتهن ما ينقص من قدرهنَّ... وأين هذا مما يدَّعيه الموتورون البتريون...!.
    والشكاية لغةً: هي تظلم المظلوم من الظالم وإخباره بسوء فعله، وشكاية النسوة الطاهرات من الأعداء يستلزم تسلط الأعداء عليهن بعد شهادة الإمام عليه السلام ولا علاقة لنهيه بالبكاء واللطم أصلاً...!.
  وعلى فرض شمول النهي للبكاء واللطم، فإنه خاصٌّ بما قبل الشهادة لا بعدها بقرينة ما ذكره الإمام عليه السلام لأخته بأنه راحل عن قريب...فلطمت وجهها وصاحت وبكت عليها السلام بحسب ما جاء في رواية ابن طاووس رحمه الله...فنهاها عن الويل والثبور، فهذا النهي في الواقع مُغيّى ومُعلَّل بعدم شماتة الأعداء حتى لو كان البكاء واللطم حقاً، فإنه يستوجب قدح الأعداء بأهل البيت عليهم السلام.
     لقد أكد الإمام عليه السلام لأخته الطاهرة الزكية عليها السلام في وصيته الطيبة لأخته الطاهرة الزكيّة وسائر بناته وأزواجه وبقية النساء الطاهرات: بأن البكاء يا أختاه وإن كان مستحباً إلا أنه يا أختاه يؤدي إلى شماتة الأعداء بنا قبل انتهاء الحرب وقبل حلول الفادحة والمصيبة العظمى ، لأنّه يسبّب نوعاً من الضعف النفسيّ في المعسكر....فالأمر بالسكوت قبل الشهادة معلل ومغيى بما ذكرنا، وأمّا بعد الشهادة فلا مانع منه، وذلك لأن إخماد الجزع بعد شهادته عليه السلام، أو إخماد الوَلولة وكَبْت شِدّة الحُزن يعتبر نوعاً من إخماد وإسكات لصوت نهضة الإمام سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، كما يعدُّ الإخماد سداً مانعاً من وصول ظُلامته إلى أسماع العالَم بأسره . . وكلّ مستقرئ يرى أنّ الذي أوصل صوت الإمام سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلى العالم ، وأنجح نهضته إلى اليوم وإلى يوم القيامة إنما هم السبايا والمواقف البطولية الجهادية لمولاتنا العقيلة الحوراء الطاهرة زينب الكبرى عليها السلام وخُطبها البليغة وخُطب الإمام السجاد عليه السلام المزلزلة في المواضع المختلفة من مشاهد السبيّ لأهل البيت عليهم السلام ... فإن لمولاتنا العقيلة الطاهرة الزكية عليها السلام السبق في الفضيلة مع إمامنا المعظم السجاد عليه السلام في إيصال صوت إمامنا المعظم سيّد الشهداء عليه السلام، فمولاتنا الحوراء زينب الكبرى عليه السلام حجة زمانها مع الإمام السجاد عليه السلام كما كانت أُمها الطاهرة الزكية مولاتنا فاطمة حجةً مع بعلها أمير المؤمنين عليهما السلام، ولن ينسى لها التاريخ صمودها الكبير في وجه الطواغيت..كما أن الله تعالى والحجج المطهرين عليهم السلام قدّروا لها تلك المواقف الجليلة التي تعجز عن مواجهته فطاحل الرجال...وهذا إنْ دل على شيء فإنما يدل على عظمتها وعلو مقامها عند الله والحجج عليهم السلام، فهي العلة والسبب في إنجاح قيام الإمام الحسين عليه السلام بوجه الظالمين والمستبدين....وهذا الموقف البطولي بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام يتطلب صلابة كبرى وقوة حزم ولا يتوفر ذلك في حال البكاء والهلع لأنهما يضعفان من المواجهة والتحدي للأعداء....
   والسرّ واضح؛ لأنّه حينما تكون حالة هياج وحالة احتراق للخيام وتشرّد وهيام الأطفال واليتامى ، فالظرف هنا ليس ظرف جزع ولا ظرف إظهار الندبة ، بل هو ظرف حَزم الأمور وقوّة الجَنان ، ومحاولة الإبقاء على البقيّة الباقية من أهل البيت عليهم السلام . .
فإذن ظرف المرحلة بخصوصها هي جنبة ضبط وتدبير وحزم ، وليس من المناسب إظهار المآتم والعزاء في ذلك الظرف العصيب، فمن ثمّ فإنّ أمره عليه السلام مختصّ بذلك الظرف ، وهو نوع من التدبير والحكمة منه عليه السلام ، ولا بدّ من لمّ الشمل وجمع الشتات للأرامل واليتامى، وأن ذلك الظرف ليس ظرف بكاء ورثاء ولا محل لإظهار المصيبة والشكاية، من هنا لم يُرَ من مولاتنا الصدّيقة الكبرى عليها السلام ولا من أخواتها وبنات أخيها وبقية النسوة الطاهرات أيَّة شكوى وبكاء وولولة، وما ذلك إلا لأجل الوصية التي صدرت من الإمام المعظَّم سيِّد الشهداء سلام الله عليه...
   زبدة المخض: في مقام الإجابة على الانتقادات والاعتراضات السابقة ، أنّ ما ذُكر في العلوم التخصصيّة في حقيقة البكاء من جهة البحث الموضوعيّ هو أنّ هناك شرطين لرجحان البكاء هما : أن يكون البكاء وليداً لمعلومة ولإدراك حقيقيّ، وأن يكون لغاية حقيقيّة وهادفة إيجابيّة، فيكون من سنخ الانفعالات الكماليّة الممدوحة للنفس بلا ريب . . وهو كذلك ممدوح في لغة القرآن ولغة النصوص الشرعيّة . . وخلصنا إلى أنّ البكاء هو نوع من التفاعل الجدّيّ والفعليّ مع الحقيقة باعتباره تفاعلاً وجدانياً مع الفكر الإدراكي.. ودعوى أنّ البكاء هو فكرة إدراكيّة بحتة من دون النظر إلى التفاعل الوجداني العاطفي غير مثمر بمفرده، بل إنّ البكاء بمنزلة إمضاء محرّك للسير على تلك الفكرة الإدراكية ... فالبكاء إذا ولّد حضور الفكرة الإدراكية المنقوشة في النفس الإنسانية وهي العِبرة تعقبتها العَبْرة وهي البكاء، حينئذ يكون نوعاً من التفاعل الشديد والإيمان الأكيد بالفكرة والعِبرة . .ويُعتبر ذلك نوعاً من التسجيل المؤكَّد لتفاعل الباكي وإيمانه واختياره لمسيرة تلك العِبرة . 
  (الاعتراض الثالث على البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام ) :
  ثمة اعتراض ثالث يستعرضه المشككون في البكاء على مصائب سيّد الشهداء ومصائب آبائه وأبنائه الطاهرين عليهم السلام مفاده: إنه لو سلّمنا أنّنا قبلنا بأمر البكاء في الجملة ، ولكنّ استمرار البكاء على نحو سنويّ أو شهريّ أو اسبوعيّ بشكل دائم يولّد حالة وانطباعاً عن الشيعة والموالين لأهل البيت عليهم السلام،  بأنّ هؤلاء أصحاب أحقاد وضغائن ، وأنّهم يحملون العُقد النفسية . . واستمرارهم بالبكاء واجترارهم له يدلّ على أنّهم عديمو الأمل بالمستقبل والإنفتاح على الآخرين والتفاعل معهم، فما لنا وللماضي بل علينا التفاؤل ونبذ الماضي، فإن لكلّ أمة ما كسبت وعليها ما اكتسبت... فهذه ظاهرة سلبية انهزامية تكشف عن عقد روحية ، وكبت نفسي دفين . . فبدل أن يقدِموا على أعمال وبرامج ومراحل لبناء مذهبهم ولبناء أنفسِهم ليخرجوا من حالة المظلوميّة إلى حالة قيادة أنفسهم والغلبة على من ظَلمهم ، فإنّهم يبقون على حالة الانتكاس والتراجع . . وهذه الحالة يمكن أن نسمّيها الحالة الروحيّة الشاذّة ، هي حالة توجد خللا في الإتّزان الروحيّ    كما يعبّر ذلك في علم النفس وعلم الاجتماع ، فالبكاء حيث إنّه في علم النفس ليس بحالة اتّزان روحيّ وإنّما حالة اختلال واضطراب روحيّ . . فنحن نفرض على أنفُسنا حالة اضطراب روحيّ واختلال فكريّ لا نستطيع معهما أن نهتدي السبيل، بل نحن عديمو الأمل، ولدينا حالة مرضية هي الكَبت ، وهذه الأوصاف هي أوصاف مَرَضية وليست أوصاف روحيّة سليمة، فحينئذ يكون الإبقاء على مثل هذه الظاهرة إبقاءً على حالة مَرَضيّة بإجماع العلوم الانسانيّة التجريبيّة الحديثة ، ولمّا كانت هذه الظاهرة المَرَضيّة تتشعّب إلى أمراض روحيّة أو فكريّة أو نفسيّة عديدة . . فمن اللازم الابتعاد عنها ونبذها جانباً . .
 خلاصة الاعتراض الثالث: هو أن البكاء عبارة عن مجموعة من العُقد النفسية وهو يوجب انعكاس حالة مَرَضية روحيّة لأفراد المذهب وأبناء الطائفة . .
الجواب على الاعتراض بوجوهٍ متعددة هي التالي:
 (الوجه الأول): ذكرنا سابقاً أن الروايات الآمرة بالبكاء على سيّد الشهداء ومصائب آبائه وأبنائه وأخواته وإخوانه الطاهرين عليهم السلام فاقت التواتر بمرات وكلها تحثّ على البكاء عليهم (سلام الله عليهم) من دون أن تربطه بفترة زمنية معينة ولا أنها تتضمن أمراً سلبياً كأن توجد العقد النفسية عند الباكي أو أن البكاء يوجد خللاً في الإتزان الروحي...فالدعوى المذكورة تنسب إلى المعصومين عليهم السلام النقص الروحي وعدم الإتزان فيه ـ والعياذ بالله تعالى ـ والنسبة المذكورة نعتبرها كفراً بآل البيت عليهم السلام الذين أمرونا بإقامة العزاء على مصائبهم والبكاء عليهم بأمرٍ من الله تعالى وهم محدَّثون عنه سبحانه وتعالى ...بل إنهم بكوا على ما أصاب جدهم أمير المؤمنين وجدتهم الطاهرة سيّدة نساء العالمين وما أصاب الإمامين الحسنين عليهم السلام حتى كادوا يموتون من شدة الحزن والبكاء على ما أصاب أولئك الطاهرين عليهم السلام...فها هو مولانا الإمام المعظم السجاد عليه السلام قد بكى على أبيه سيِّد الشهداء عليه السلام أربعين سنة حتى كاد يموت من شدة حزنه....وهكذا بقية أئمة الخلق عليهم السلام بكوا كثيراً على مصائب أجدادهم الطاهرين سلام الله عليهم من دون أن يوجِد البكاءُ عندهم حالة من عدم الإتزان الروحي والإنهزام النفسي ـ حاشاهم من هذه النسبة ـ فإنهم معصومون ومطهرون من كلِّ نسبةٍ مهينة لا تليق بهم وبعلو مقامهم الشريف....فها هو مولانا الإمام المعظم وليّ الأمر صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه لا يزال يبكي حتى تخرج روحه من بدنه الشريف بل إن البكاء على جده سيّد الشهداء عليه السلام سيكون السبب في موته روحي فداه حسبما جاء عنه سلام الله عليه في الخبر الصحيح الوارد عنه في زيارته لجدِّه سيِّد الشهداء عليه السلام، فقال:« فلئن أخرتني الدهور ، وعاقني عن نصرتك المقدور ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نصب لك العداوة مناصباً ، فلأندبنك صباحاً  ومساءً ، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً ، حسرة عليك وتأسفاً ، وتحسراً على ما دهاك وتلهفاً ، حتى أموتَ بلوعةِ المصابِ وغصةِ الاكتياب ».
  ولو كان البكاء يولِّد العقدَ النفسية عند الباكي لما كان فعله أهل البيت عليهم السلام ولا كانوا أمرونا به، لأنهم معصومون مطهرون وحكماء عظام وسفراء الله في خلقه، فلا يأمرون بما فيه مفسدة نفسية على المؤمن الموالي، بل أمرهم رشد ووصيتهم التقوى وفعلهم الخير وعادتهم الإحسان...والبكاء على مصائبهم نظير البكاء من خشية الله تعالى الذي اتصف به الأنبياء والحجج عليهم السلام، فهما من طينة واحدة لا يختلفان في طبيعتهما أبداً، ويدل عليه الآيات والأخبار الكاشفان عن تأثر الكون بالبكاء على الأخيار من عباد الله الصالحين... وقد فصلنا فلسفة البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام في كتابنا المبارك ( رد الهجوم عن شعائر الإمام الحسين المظلوم عليه السلام ) المطبوع عام2003 م فليراجع. 
  (الوجه الثاني): إن كلمات علماء النفس والاجتماع والفلسفة متفقة على أنّ الفطرة الإنسانيّة السليمة التي هي باقية على حالها لا بدّ لها من التأثّر والتفاعل . . أمّا التي لا تتأثر بالأمور المحرِّكة للعاطفة تكون ممسوخة ، إذ فيها جناح واحد فقط وهو جناح الإدراك . . أما جناح العَمل فإنّه منعدم فيها . . كما هو الفرق بين المجتمعات الغربيّة والمجتمعات الشرقيّة . .فقد أكد علماء النفس حديثاً بأن البكاء يجلي العقد النفسية لدى الباكين حتى أسست المقاهي الخاصة للبكاء، فجاء في جريدة السفير عدد 9837 عام 2004م أن جماعة من علماء النفس في الصين أسسوا مقهى للحزن في هونغ كونغ وأن المقهى يوفر لزبائنه البكائين المناديل ويهيئون لزبائنهم الفلفل والبصل لمساعدة الذين يرغبون في ذرف الدموع وتعزف الموسيقى الحزينة التي تعينهم على ذرف الدموع...لأن البكاء يخفف عنهم الكبت والإكتئاب... فأين العيب في البكاء يا أولي الألباب..!؟.
  والحاصل: ما ذكره المعترض معاكس لما يعتقد به علماء النفس والصحة، من أن البكاء حالةٌ صحيحة وسليمة وليست حالة مَرَضيّة ، ولا حالة نفسية معقدة يتطلب علاجها، بل إنّ العُقَد النفسية إنّما تجتمع فيمن لا يكون له متنفّس للإنفعال، أي: أنّ الذي لا ينفعل ، والذي لا يظهر انفعاله إزاء المعلومات الحقيقيّة التي تصيبه والذي يكبت ردود الفعل الطبيعيّة للحوادث سوف تتكدّس عنده الصدمات إلى أن تصبح عُقداً وتناقضات إلى أن تنفجر يوماً ما . . وربّما تظهر لديه حالات شاذة من قبيل سوء الظنّ بالآخرين أو اتّخاذ موقف العداء لجميع من حوله، والشخصيّات المعروفة في المجتمعات البشريّة ، بعد استقراء أحوالهم وأطوارهم نجدها تتمتّع بهذه الصفة الأساسيّة في النفس، فالذي لا يبدي العواطف الإنسانيّة الصادقة ، ولا تظهر أشكالها عليه ، سوف يجتمع في خفايا نفسه ركام من الحقد وأكوام من العقد النفسية، حيث إنّ الإنسان لا يخلو من جانب عاطفي جِبلِّي ; والاستجابة للعاطفة أمرٌ ثابت ناشئ ومتولّد عن الظاهرة العمليّة والوجدانيّة والضميريّة من الإدراك الحقيقيّ، فإذا لم تحصل هذه الاستجابة فلا بدّ من وجود اختلال في توازن الإنسان . . لذلك نجد أنّ المنطق القرآنيّ والإرشادات من السنّة النبويّة الشريفة والسيرة العلويّة الكريمة كلّها تقرّر هذه الموازنة والتعادل بين جميع قوى النفس دون أن يتمّ ترجيحُ جانب للنفس دون جانب آخر . .
   إن المنطق السليم المعتدل والمتوازن إنما هو القائل:« بأن نفس الإنسان في حالة من التجاذب والتأثير والتأثّر بين أجنحتها المختلفة، فلا ينسلخ الإنسان من عاطفته ووجدانه وضميره باعتباره كتلة متكاملة من المشاعر والعواطف وإلا صار وحشاً لا يذرف دمعة على مصاب حبيب أو فقدان عزيز . .«.
   (الاعتراض الرابع على البكاء على مصائب الأحباب من آل الله تعالى):
 لقد كثر نعيق الشيعة البتريين والنواصب من المخالفين لعنهم الله تعالى حول الشعائر الحسينية على صاحبها آلاف السلام والتحية للتشكيك فيها ومن ثمَّ إسقاطها من مفهوم الولاية البراءتية من أعداء آل محمد عليهم السلام فادعوا:« بأنّ البكاء ظاهرة تنافي الصَبر المرغوب فيه ، ولا تنسجم مع الاستعانة بالله عزّ وجلّ . . كما في سورة البقرة ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) ؛ فالبكاء ـ بحسب دعواهم ـ منافٍ للصبر والتحمّل ومناقضٍ للاستعانة بالله سبحانه وتعالى وبالتالي فهو غير مرغوبٍ فيه شرعاً...».
 الجواب من وجوهٍ هي الآتي :
 (الوجه الأول): إن الاستدلال بالآية الكريمة :( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لله وإِنّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) على وجوب الصبر والتحمّل عند نزول المصيبة لا يتّفق مع بكاء النبي يعقوب على ابنه النبي يوسف عليهما السلام حتّى ابيضّت عيناه من الحزن كما هو ظاهر من قوله تعالى« وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ » « قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ».
 لقد بكى نبيُّ الله يعقوب على ابنه يوسف عليهما السلام بكاءَ ألمِ الفراق والبعدِ عن الأحبة مع علمه بأنه حيٌّ يرزق حتى أصابه العمى من شدة البكاء، وطالما استشهد أئمتنا الطاهرون عليهم السلام على صحة البكاء وشرعيته ببكاء النبي يعقوب عليه السلام على فراق ابنه النبي يوسف عليه السلام، فلماذا لم يجرأ أحدٌ من الناس بنعته بقلة الصبر والتسليم لقضاء الله تعالى، وإذا ما كان بكاء نبيٍّ من أنبياء الله تعالى على فراق الأحبة علامة على قلة الصبر والتسليم، فليكن بكاء الأئمة الطاهرين وشيعتهم الموالين علامة على قلة الصبر والتسليم بطريق أولى أسوة بنبي الله يعقوب عليه السلام (وحاشاهم من البكاء العبثي )...وحيث إن الأنبياء مطهرون من الدنس والرجس وبالتالي هم منزهون عما يخالف رضا الله تعالى والتسليم بقضائه وقدره، فلا ريب حينئذٍ بأن يكون بكاؤهم هو عين الرضا لله عزَّ وجلَّ والتسليم بقدره وقضائه...فلماذا كل هذا التشويش على البكاء على سيّد الشهداء والبقية من أهل بيته الطاهرين عليهم السلام...؟! ألا يحق لنا نحن الشيعة أن نتخذ الأنبياء قدوةً لنا في أفعالهم وأقوالهم وتقاريرهم، فنتأسى بهم في كلِّ ما فعلوه وقالوه..؟؟ فهل أن بكاء النبي يعقوب عليه السلام على ابنه المغيب عنه خلاف الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره ؟ وهل أن بكاء إمامنا المعظم السجاد عليه السلام على أبيه سيّد الشهداء عليه السلام خلاف الصبر والتسليم أيضاً..؟ وهل أن كلَّ الأخبار الآمرة بالبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام ـ وقد فاقت حدّ التواتر الكاشفة عن علو مقام البكائين والواعدة لهم بالثواب العظيم ـ خلاف الصبر والتسليم..؟ وهل أن أئمتنا الطاهرين عليهم السلام حينما بكوا على سيّد الشهداء أو على أحدٍ من أهل الكساء وأمرونا به هو خلاف الصبر والتسليم..؟ وهل أن ما وعدونا به من الثواب الجزيل هو مزيف لا واقع له عند ربّ العالمين (حاشاهم من ذلك )..؟! كلاّ وألف كلا ....!.
 (الوجه الثاني): لقد تواترت الأخبار الشريفة على أهمية البكاء على العترة الطاهرة عليها السلام ، والباحث المنصف يبخع لتلك الروايات التي فاقت التواتر أضعاف مضاعفة، ويرى بوضوحٍ لا لبس فيه ما للبكاء على عليهم السلام من الثواب العظيم والفضل الجزيل والقرب من الله تعالى والحجج الطاهرين سلام الله عليهم .
    إن البكاء على سادة الخلق لا سيَّما البكاء على سيِّد الشهداء عليهم السلام يعتبر من أبرز سمات وصفات الأنبياء والأولياء عليهم السلام، وقد عقد المحدّث الجليل ابن قولويه القمي رحمه الله المتوفى عام 368هجري في كتابه النفيس « كامل الزيارات »  أحدَ عشر باباً في استحباب البكاء على الإمام المظلوم أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وفي هذه الأبواب مئات الروايات الكاشفة عن فضل البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام وأن عامة المخلوقات بكت عليه وحزنت على فراقه، فالجماد كالحجر والمدر والشجر بكاه وكذلك الملائكة والجنان والحور والطير والحيوان والجن والإنس والأفلاك والأملاك والأنبياء والأولياء والعباد الصالحين....كل هذه المخلوقات بكت وانتحبت على ظلامة سيّد الشهداء عليه السلام لما يحويه هذا العظيم من إيمان راسخ وعقيدة بالله تعالى ثابتة لا تزعزعها العواصف والقواصف....وبكاء الجماد إنما هو بتغيره إلى الحمرة، وبكاء الحيوان والملائكة والإنس والجن بسكب الدمع من العيون، فبكاء كل جنسٍ بحسبه...كل ذلك مؤيد بالآيات والاخبار القطعية الصدور فلا يجوز طرحها  عن طاولة البحث الإستدلالي والشطب عليها برمتها تحت عناوين لا تمت إلى البحث العلمي بصلة، فإن الشطب على الأخبار القطعية الصدور هي بضاعة العاجز وتجارة المفلس الكاسد، فلا نقيم له وزناً ولا نرفع له قدراً باعتباره صعلوكاً من صعاليك بني أُمية وبني العباس مهما حاول أن يتنصل ويتبرأ منهم ، فإنها طنطنة لا يغتر بها إلا الكسول في التحصيل حتى لوكانت عمامته تنطح السحاب وتباري الجبال الرواسي....!.
 ولم يتفرد العلامة ابن قولويه بما استفاض به من روايات حول فضيلة البكاء على ظلامات سادة الأنام سلام الله عليهم، بل سار على نهجه المحدّث المجلسي رحمه الله حيث عقد بابين خاصين في فضل البكاء والرثاء بالشعر الحزين على سيّد الشهداء عليه السلام، وكذلك اتبع المحدّث الجليل الحرّ العاملي رحمه الله مَنْ سبقه من المحدثين، فذكر عدةَ أبوابٍ في فضل البكاء وإقامة مجالس العزاء وإنشاد الشعر على سيّد الشهداء عليه السلام....ثم أكمل المحدّث النوري الطبرسي السرد الأخباري بفضل البكاء في كتابه « مستدرك الوسائل »  حيث جمع في كتابه الجليل الروايات الكثيرة التي فاتت عن ذهن المحدث الحر العاملي في الوسائل، وقد جمع شتاتها من المصادر الموثوقة عند الشيعة الإمامية ككتاب قرب الإسناد ومحاسن البرقي وكتب الصدوق وبقية المجامع الروائية عند الشيعة الإمامية... كما جمع مثلهم جماعة من العلماء الأعلام كالشيخ الأميني رحمه الله الأخبار حول فضيلة البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام من مصادر المخالفين حيث دونها في كتاب « سيرتنا وسنتنا ».
الإيراد على دعوى: أن روايات كتاب مستدرك الشيعة كلّها مراسيل: 
    ودعوى أن الروايات التي استدركها المحدث النوري كلها مراسيل أو ضعيفة الأسانيد... لا تستند إلى أساس علمي رجالي صحيح، وذلك لأن المحدث النوري رحمه الله قد ذكر أسانيد تلك الأخبار في خاتمة كتابه الجليل، ولم يدرجها ضمن الروايات تسهيلاً واختصاراً، فهي روايات صحيحة من حيث أسانيدها ودلالاتها القطعية الصدور، وبالتالي هي روايات مسندة إلى المعصومين عليهم السلام....ولو أن هذه الروايات جُمِعَتْ في كتابٍ منفرد لبلغت المئات وجُلُّها أخبار صحيحة الأسانيد وعالية المضامين لم يبلغ مستواها أيُّ واجبٍ من الواجبات أو ندبٍ من المندوبات... وذلك لأهمية الشعائر البكائية على سيّد الشهداء روحي فداه لما فيها من تعظيم الدين المتمثل بالولاية لأهل البيت عليهم السلام والبراءة من أعدائهم لعنهم الله، إذ لولا أهل البيت (سلام الله عليهم) لا سيَّما المولى المعظم سيّد الشهداء ( أرواحنا فداه وعليه السلام ) لاندرست معالم النبوة والتوحيد الإلهي، فإن لهذا الوليّ الكريم والإمام الفذّ الكبير دورٌ عظيم في إحياء الدين وسنن الأنبياء والمرسلين، والإبقاء على الشريعة المطهرة، فإن إظهار الحزن والبكاء على أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام أمر مرغوب فيه شرعاً وعقلاً وعرفاً من حيث مكانة الشعيرة البكائية التي هي العلّة والسبب في بقاء الدين باعتبارها المحرك الرئيسي لسلوك منهجهم القويم والذوبان فيهم، لأن مَن ذاب فيهم فنى في أوامرهم ونواهيهم، فصار منوراً بأنوارهم عارفاً بمرادهم، ناهجاً أفكارهم ومقتدياً بذواتهم التي هي في الواقع الكعبة إلى الله تعالى( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمَّ وجه الله )، وما حكمة الطواف حول كعبة المسجد الحرام إلا تفخيماً وتعظيماً لوليدها الإمام الأعظم والوليّ الأفخم أسد الله الغالب مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام...فإن الطواف حولها يعني الطواف حول الإيمان بركنيه الأساسيين وهما: التولّي والتبري... فمن الواجب حينئذٍ أن تكون العناية بالشعائر البكائية أبلغ من العناية بالأحكام المتعلقة بفروعه، ذلك لأن الشعيرة البكائية تشحذ الهمم في توليد المشاعر الدينية للتعاطف مع صاحب الشعيرة فلا يؤخذ إلا منه ولا يعبد الله إلا من خلال بابه المقدس....( وليس البرَّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرَّ من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها.. ) وقال بحق النبيين موسى وهارون عليهما السلام:( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلةً وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) حيث صارت بيوتهما قبلة لبني إسرائيل يتوجهون من خلالهما إلى الله تعالى لأخذ المعارف الإلهية للعروج إلى الله تعالى بقدم العبودية لله تعالى، فهما أفضل من القبلة الحجرية بكثير بل لا تقارن الأحجار بالأنبياء والأولياء عليهم السلام، فالحجر لا يعطي المرء الإيمان ويعلمه الحلال والحرام، فإن الحجر أصم لا يصدر منه الحياة والإيمان، وإنما الصالحون من عباد الله كالأنبياء والأولياء عليهم السلام هم من يعطي العباد حياة القلوب بضخها بروح الإيمان والإستقامة في الأقوال والأفعال... وإذا ما كانت بيوت الأنبياء كموسى وهارون عليهما السلام قبلة لبني إسرائيل مع قبلة بيت المقدس بل بيوتهما أفضل من قبلة بيت المقدس، فبطريقٍ أولى تكون الأفضلية لبيوت آل الله تعالى من عترة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ولولاهم لما كان للأنبياء ذكرٌ في سجل الأمم...فالإيمان بهم يعني إحياء تواريخ الأنبياء وبواسطتهم ارتفع التوحيد في هياكل الصالحين (لولاكم ما خلقت الأفلاك ) وما تكاملت نبوة نبيّ إلا بأخذ الميثاق عليه بولايتهم والذود عنهم والإعتقاد بهم بأنهم حجج الله وأحباؤه وأبوابه ومعانيه وصفاته.. وهو ما عبَّر عنه المعصوم عليه السلام في دعاء رجب:(فبهم ملأت أرضك وسماءك..)...فكيف لا نبكي على مصائبهم وأحزانهم وقد ضحوا بأرواحهم المطهرة في سبيل خدمة الله والذود عنه والتضحية في سبيله، وبهم استنقذنا من الذل والهوان والكفر والشرك والإلحاد، لذا فإنهم فنوا فيه فأفنى العباد فيهم وأمرهم بالبكاء عليهم ووعد بجزيل الثواب لكلّ من بكى على فراقهم والشوق إليهم، وتأسف على أحزانهم وأحوالهم التي كدرها عليهم الظالمون السابقون لعنهم الله... ولا يزال يكدرها عليهم الظالمون اللاحقون من نواصب وبتريين، ولن تنطفئ نارهم إلى ظهور الإمام الحجَّة القائم أرواحنا له الفداء....قاتلهم الله أنَّى يؤفكون.
    وقلنا في بعض بحوثنا الأخرى حول الشعائر الحسينية المقدَّسة (على صاحبها آلاف السلام والتحية) بأنها من أركان الإيمان الواجبة - لا المستحبة - من حيثية البراءة من أعداء آل محمد، لأن وجوب الولاية لهم سلام الله عليهم تستبطن - بحسب الدلالات الإلتزامية في داخل أخبار الولاية لهم - وجوب البراءة من أعدائهم، هذا فضلاً عن القرائن الخارجية الدالة على وجوب التبري من أعدائهم...ذلك لأن من أحبَّ وليَّاً لله تعالى لا بدَّ له بحكمة العقل والنقل من بغض أعدائه والتبري منهم، فلا تجتمع المحبة للوليّ مع محبة أعدائه، فالمحبة له ولأعدائه نقيضان لا يجتمعان أبداً، فمن أحبَّ شيئاً نفر بطبعه من المخالف والمعارض له ....
   بالإضافة إلى ذلك: إن المحبة للوليّ عليه السلام تستوجب على المحب في أن يمتثل أوامر حبيبه ونواهيه، وقد نهونا سلام الله عليهم ببغض أعدائهم والبراءة منهم وهو ما كشفته لنا الآية المباركة بقوله تعالى حاكياً عن نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله:( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم...) فإن من أحبَّ الله تعالى يتوجب عليه الإمتثال لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وآله وإلا كان التظاهر بمحبة الله من دون اتباع نبيه صلى الله عليه وآله دعوى فارغة من الصدق والوفاء... بل تكون دعواه ساعتئذٍ نفاقاً ظاهراً تخرجه من الدين. 
  (الوجه الثالث): ذكرنا في الوجه الثاني أن البكاء على فقدان عزيز كما كان الحال عند نبيّ الله يعقوب حينما بكى على فراق ابنه يوسف عليهما السلام ليس اعتراضاً على قدر الله وقضائه وإلا لما صح مدح الله تعالى له والإطراء عليه بسبب بكائه على فراق ابنه النبي يوسف عليه السلام، وعلامة الإطراء عليه تكمن في عدم اعتراض الله تعالى على بكائه، فتقرير الله تعالى لبكائه دلالة قطعية على الرضا الإلهي على بكائه...يؤيده ما ورد في أخبارنا الشريفة من تقرير بكاء النبي يعقوب عليه السلام ومدحهم له على ذلك، وهم خزانة علم الله وعيبة علمه فما أفادوه من المديح والإطراء على نبي الله يعقوب عليه السلام دلالة كبرى على إمضائهم لبكائه وأنه فعل يستوجب التقدير والإحترام، وما يقررونه ويمضونه يدل بالدلالة الإلتزامية والمطابقية على رضا الله تعالى عنه على بكائه على ابنه العزيز على فؤاده الطاهر الذي لا يحمل أيَّة مخالفة للرب المتعال، إذ لو كان بكاؤه على ابنه غير مرضيٍّ لله تعالى لما كان فعله النبي يعقوب عليه السلام لأنه يتنزه ـ بسبب عصمته كنبيّ مرسل من عند الله وفعله وقوله وتقريره حجَّةً شرعية ـ فبكاؤه يدل على الرضا الإلهي عنه، وهكذا الحال بالنسبة إلى البكاء على سيّد الشهداء وأهل بيته كإخوانه وأخواته وآبائه الطاهرين عليهم السلام فإنه مرضيٌّ عند الله تعالى وهو ما كشفت عنه النصوص الطاهرة الآمرة بالبكاء على مصائب السادة العظماء عليهم السلام...فما الضير فيه ما دام مشابهاً لبكاء يعقوب عليه السلام في أدنى مراتبه مع عدم كونه مخالفاً للصبر الذي يجب أن يتحلى به المؤمن فضلاً عن النبي المرسل.. فبكاؤه على ابنه عليهما السلام لا يتعارض مع مفهوم الصبر المعتبر فيه عدم الإعتراض على قضاء الله وقدره..؟! فكيف الحال إذا كان البكاء من أجل الحزن على أليم المصاب الذي حلَّ بأولئك الأحباب الذين من أجلهم خلق الله تعالى الأملاك والأفلاك، مع ما لهم من الفضل علينا وعلى عامة خلق الله ومنهم الأنبياء والأوصياء فإن لآل محمد عليهم السلام الفضل عليهم... فإن البكاء عليهم - مهما كان نوع البكاء - أوجب من بكاء النبي يعقوب عليه السلام على ولده الغائب عنه وهو حيٌّ يُرزق...؟؟!!. ولو كان الصبر بعدم البكاء في موارد الحزن على الأحباب من آل محمد عليهم السلام مطلوباً شرعاً لكان فعله آل محمد عليهم السلام كما كان فعله نبيُّ الله يعقوب عليه السلام، وحيث إنهم بكوا على سيّد الشهداء عليه السلام ولم يحجموا عن البكاء بل أمرونا به، علمنا بطريقٍ أنيٍّ أن البكاء عليه روحي فداه محبوب عند الله تعالى وعندهم..فليذهب عواء أولئك الكلاب أدراج الرياح، فإنهم لا يؤمنون بكتاب الله ولا بأخبار آل محمد عليهم السلام طبقاً للقاعدة العمرية:« حسبنا كتاب الله » مع أن الكتاب الكريم كشف لنا عن بكاء النبي يعقوب عليه السلام على ابنه يوسف عليه السلام وكذلك كشف لنا عن أن السماوات تبكي على الصالحين كما هو مفهوم قوله تعالى« كذلك وأورثناها قوماً آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ».
  إن البكاء أُسلوب فطري ينتاب الإنسان السوي بل حتى الحيوان والنبات لدى الشعور بألم نفسي أو بدني أو حال الوقوع في نكبة أو انكسار القلب والخاطر وغيرها من أسباب ودواعٍ، بل إن القرآن الكريم قد أكد على أن الجماد أيضاً له شعور يتولد منه حزن وبكاء، كل ذلك دلالة واضحة على أن الخلق بشتى أصنافه مجبولون على الانفعال والشعور بالأسى ومن ثمَّ البكاء، وهو ما دلت عليه الآية المتقدمة حيث أشار منطوقها إلى أن الأرض والسماء لا تبكي على الفاسدين الظالمين، بينما مفهومها يدل على بكائهما على الصالحين من عباد الله تعالى، فإن للسماء والأرض بكاءً حقيقياً، وقد اختلف المفسرون في معنى بكاء السماوات والأرض على  المؤمنين المستنبط من مفهوم الآية المباركة: ( فما بكت عليهم السّماء والأرض وما كانوا منظرين ) كما اختلفوا في معنى الآية الكاشفة عن عدم بكاء السماء والأرض على الفاسقين على وجوه :
 أحدها: أنّه لم يبكِ عليهم أهل السّماء وأهل الأرض ، لأنهم لا يستحقون أن يتأسّف عليهم أحدٌ ويحزن لفقدهم ، وكأنهم توقعوا ذلك لعزّتهم ورفعة درجتهم في نظرهم .
الثّاني: أنّه ما بكى عليهم المؤمنون من أهل الأرض ولم يبك عليهم أهل السّماء كما يبكون على فقدان الصالحين ، لأنّ هؤلاء مسخوط عليهم ، وهو قريب من الوجه الأوّل .
الثّالث: أنّه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر ، فانّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت : بكاه السّماء والأرض ، وأظلم لفقده الشمس والقمر ، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز :
فالشّمس طالعة ليست بكاسفة         تبكى عليك نجوم اللَّيل والقمر
أي ليست مع طلوعها كاسفة نجوم اللَّيل والقمر لأنّ عظم المصيبة قد سلبها ضوءها ، وقال النابغة :
تبدو كواكبه والشّمس طالعة       لا النور نور ولا الاظلام اظلام
الرابع: أن يكون ذلك كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السّماء ، وقد روى عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية فقيل : وهل يبكيان على أحد قال : نعم مصلَّاه في الأرض ، ومصعد عمله في السّماء ، وروى عن أنس عن النّبيّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم ما من مؤمن إلَّا وله باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه .
   المعنى الرابع هو أصح الوجوه في تفسير الآية منطوقاً ومفهوماً؛ ويظهر من المحدث الطبرسي صاحب مجمع البيان موافقته عليه، وهو الأوفق في معنى الآية بدلالة ما ورد في الأخبار من بكاء السماء على النبي زكريا والإمام المعظم سيِّد الشهداء عليهما السلام...فإن البكاء هو بكاء حقيقي وهو بمعنى اختلال الكون على فقدان الوليّ والنبيّ عليهما السلام، قال الطبرسي:« على هذا يكون معنى البكاء الإخبار عن الاختلال بعده ، قال مزاحم العقيلي:
بكت دارهم من أجلهم فتهلَّلت         دموعي فأىّ الجازعين ألوم
أمستعبرا يبكى من الهون والبلى          أم آخر يبكى شجوه ويهيم
وقال السدي : لما قتل [ الإمام ] الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) بكت السماء عليه . وبكاؤها حمرة أطرافها . وروى زرارة بن أعين ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه قال : بكت السماء على يحيى بن زكريا وعلى الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، أربعين صباحاً ، ولم تبك إلا عليهما . قلت : وما بكاؤها ؟ قال : كانت تطلع حمراء ، وتغيب حمراء . ( وما كانوا منظرين ) أي عوجلوا بالعقوبة ، ولم يمهلوا . وقوله : وما كانوا منظرين ، أي عوجلوا بالعقوبة ولم يمهلوا ».
وبكاؤهما على الصالحين مؤيد بالأخبار المستفيضة الدالة على بكاء السماء والأرض على موت النبي والإمام والعالم التقي والمؤمن الورع، وقد استعرض العلامة الجليل المحدّث أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمي أعلى الله مقامه الشريف أخباراً متواترة مجموعها ثمانية وعشرين حديثاً بأسانيد صحيحة وعالية تحت عنوان « بكاء السماء والأرض على قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) والنبي يحيى بن زكريا ( عليهما السلام » هي التالي:  
[ 241 ] 1 - حدثني أبي رحمه الله وجماعة مشايخنا علي بن الحسين ومحمد بن الحسن ، عن سعد بن عبد الله ، عن يعقوب بن يزيد ، عن أحمد ابن الحسن الميثمي ، عن علي الأزرق ، عن الحسن بن الحكم النخعي ، عن
رجل ، قال : سمعت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو يقول في الرحبة ، وهو يتلو هذه الآية : ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) ، وخرج عليه الحسين من بعض أبواب المسجد ، فقال : أما إن هذا سيقتل وتبكي عليه السماء والأرض.
[ 242 ] 2 - حدثني محمد بن جعفر الرزاز ، عن محمد بن الحسين ، عن الحكم بن مسكين ، عن داود بن عيسى الأنصاري ، عن محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلي ، عن إبراهيم النخعي ، قال : خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فجلس في المسجد واجتمع أصحابه حوله ، وجاء الحسين ( عليه السلام ) حتى قام بين يديه ، فوضع يده على رأسه فقال : يا بني ان الله عبر أقواما بالقران ، فقال : ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) ، وأيم الله ليقتلنك بعدي ثم تبكيك السماء والأرض.
[ 243 ] 3 - وحدثني أبي ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب باسناده مثله .
[ 244 ] 4 - وحدثني محمد بن جعفر ، عن محمد بن الحسين ، عن وهيب بن حفص النحاس ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : ان الحسين ( عليه السلام ) بكى لقتله السماء والأرض واحمرتا ، ولم تبكيا على أحد قط الا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي ( عليهما السلام ).
[ 245 ] 5 - وحدثني أبي رحمه الله ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمد ابن الحسين باسناده مثله .
[ 246 ] 6 - وحدثني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه وغيره ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن حماد بن عثمان ، عن عبد الله بن هلال ، قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : إن السماء بكت على الحسين بن علي ويحيى بن زكريا ، ولم تبك على أحد غيرهما ، قلت : وما بكاؤهما ، قال : مكثوا أربعين يوما تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة ، قلت : فذاك بكاؤهما ، قال : نعم  .
[ 247 ] 7 - وحدثني أبي رحمه الله ، عن سعد بن عبد الله ، عن عبد الله ابن احمد ، عن عمر بن سهل ، عن علي بن مسهر القرشي ، قال : حدثتني جدتي انها أدركت الحسين بن علي حين قتل ، قالت : فمكثنا سنة وتسعة أشهر والسماء مثل العلقة ، مثل الدم ، ما ترى الشمس  .
[ 248 ] 8 - حدثني علي بن الحسين بن موسى ، عن علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن أبي جميلة ، عن محمد بن علي الحلبي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) ، قال : لم تبك السماء على أحد منذ قتل يحيى بن زكريا حتى قتل الحسين ( عليه السلام ) ، فبكت عليه  .
[ 249 ] 9 - وحدثني محمد بن جعفر الرزاز القرشي ، قال : حدثني محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن فرقد ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : احمرت السماء حين قتل الحسين ( عليه السلام ) سنة ويحيى بن زكريا ، وحمرتها بكاؤها.
[ 250 ] 10 - وحدثني أبي رحمه الله ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد ابن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن عبد الخالق بن عبد ربه ، قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : ( لم يجعل له من قبل سميا )  الحسين بن علي ، لم يكن له من قبل سميا ، ويحيى بن زكريا ( عليه السلام ) لم يكن له من قبل سميا ، ولم تبك السماء الا عليهما أربعين صباحا ، قال : قلت :
ما بكاؤها ، قال : كانت تطلع حمراء وتغرب حمراء  .
[ 251 ] 11 - وحدثني علي بن الحسين بن موسى ، عن علي بن إبراهيم وسعد بن عبد الله جميعا ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن علي بن فضال ، عن أبي جميلة ، عن جابر ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال : ما بكت السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا الا على الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، فإنها بكت عليه
أربعين يوما  .
[ 252 ] 12 - حدثني محمد بن جعفر الرزاز الكوفي ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن جعفر بن بشير ، عن كليب بن معاوية الأسدي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : لم تبك السماء الا على الحسين بن علي ويحيى بن زكريا ( عليهما السلام )  .
[ 253 ] 13 - وعنه ، عن محمد بن الحسين ، عن نصر بن مزاحم ، عن عمرو بن سعيد ، عن محمد بن سلمة ، عمن حدثه ، قال : لما قتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) أمطرت السماء ترابا أحمرا  .
[ 254 ] 14 - حدثني حكيم بن داود بن حكيم ، عن سلمة بن الخطاب ، عن محمد بن أبي عمير ، عن الحسين بن عيسى ، عن أسلم بن القاسم ، قال : أخبرنا عمرو بن ثبيت  ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ، قال : ان السماء لم تبك منذ وضعت الا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، قلت : اي شئ كان بكاؤها ، قال : كانت إذا استقبلت بثوب وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم .
[ 255 ] 15 - حدثني أبي رحمه الله وعلي بن الحسين ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن موسى بن الفضل ، عن حنان ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : ما تقول في زيارة قبر أبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) فإنه بلغنا عن بعضهم انها تعدل حجة وعمرة ، قال : لا تعجب ما أصاب من يقول هذا كله ، ولكن زره ولا تجفه ، فإنه سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة وشبيه يحيى بن زكريا ، وعليهما بكت السماء والأرض .
[ 256 ] 16 - حدثني أبي ومحمد بن الحسن بن الوليد ، عن محمد بن الحسن الصفار ، عن عبد الصمد بن محمد ، عن حنان بن سدير ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) مثله سواء .
[ 257 ] 17 - حدثني أبي رحمه الله تعالى وجماعة مشايخي ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن إسماعيل ابن بزيع ، عن حنان بن سدير ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) مثله .
[ 258 ] 18 - وبهذا الاسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن غير واحد ، عن جعفر بن بشير ، عن حماد ، عن عامر بن معقل ، عن الحسن بن زياد ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا ، وقاتل الحسين ( عليه السلام ) ولد زنا ، ولم تبك السماء على أحد الا عليهما ، قال : قلت : وكيف تبكي ، قال : تطلع الشمس في حمرة وتغيب في حمرة  .
[ 259 ] 19 - حدثني محمد بن جعفر القرشي ، عن محمد بن الحسين ، عن جعفر بن بشير باسناده مثله .
[ 260 ] 20 - وحدثني أبي وعلي بن الحسين رحمهما الله جميعا ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن عبد الله بن هلال ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : سمعته يقول : ان السماء بكت على الحسين بن علي ويحيى بن زكريا ولم تبك على أحد غيرهما ، قلت : وما بكاؤها ، قال : مكثوا أربعين يوما تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة ، قلت : فذاك بكاؤها ، قال : نعم  .
[ 261 ] 21 - وعنهما ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد ، عن البرقي محمد بن خالد ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن الحسن ابن الحكم النخعي ، عن كثير بن شهاب الحارثي ، قال : بينما نحن جلوس عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الرحبة إذ طلع الحسين ( عليه السلام ) عليه ، فضحك علي (عليه السلام ) ضحكا حتى بدت نواجده ، ثم قال : ان الله ذكر قوما وقال : ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ليقتلن هذا ولتبكين عليه السماء والأرض .
[ 262 ] 22 - وحدثني أبي رحمه الله ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد ابن محمد ، عن البرقي ، عن عبد العظيم ، عن الحسن ، عن أبي سلمة ، قال : قال جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) : ما بكت السماء والأرض الا على يحيى بن زكريا والحسين ( عليهما السلام ) .
[ 263 ] 23 - حدثني أبي وأخي رحمهما الله ، عن أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى جميعا ، عن العمركي بن علي البوفكي ، قال : حدثنا يحيى - وكان في خدمة أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) - عن علي ، عن صفوان الجمال ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : سألته في طريق المدينة ونحن نريد المكة ، فقلت : يا بن رسول الله مالي أراك كئيبا حزينا منكسرا ، فقال : لو تسمع ما أسمع لشغلك عن مسألتي ، قلت : فما الذي تسمع ، قال : ابتهال الملائكة إلى الله عز وجل على قتلة أمير المؤمنين وقتلة الحسين ( عليه السلام ) ، ونوح الجن وبكاء الملائكة الذين حوله وشدة جزعهم ، فمن يتهنأ مع هذا بطعام أو بشراب أو نوم - وذكر الحديث  .
[ 264 ] 24 - حدثني أبي رحمه الله ، عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد البرقي ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني العلوي ، عن الحسن بن الحكم النخعي ، عن كثير بن شهاب الحارثي ، قال : بينما نحن جلوس عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالرحبة إذ طلع الحسين ( عليه السلام ) ، قال : فضحك علي ( عليه السلام ) حتى بدت نواجده ، ثم قال : ان الله ذكر
قوما ، فقال : ( فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ) ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ليقتلن هذا ولتبكين عليه السماء و الأرض  .
[ 265 ] 25 - وعنه ، عن نصر بن مزاحم ، عن عمر بن سعد ، قال : حدثني أبو معشر ، عن الزهري ، قال : لما قتل الحسين ( عليه السلام ) أمطرت السماء دماً  .
[ 266 ] 26 - وقال عمر بن سعد : وحدثني أبو معشر ، عن الزهري ، قال : لما قتل الحسين ( عليه السلام ) لم يبق في بيت المقدس حصاة الا وجد تحتها دم عبيط .
[ 267 ] 27 - حدثني أبي ، عن محمد بن الحسن بن مهزيار ، عن أبيه ، عن علي بن مهزيار ، عن الحسن بن سعيد ، عن فضالة بن أيوب ، عن داود بن فرقد ، قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : كان الذي قتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ولد زنا ، والذي قتل يحيى بن زكريا ولد زنا ، وقال : احمرت السماء حين قتل الحسين بن علي سنة ، ثم قال : بكت السماء والأرض على الحسين بن علي وعلى يحيى بن
زكريا وحمرتها بكاؤها  .
  هذه الباقة الشريفة من الأخبار القطعية الصدور الكاشفة عن البكاء الحقيقي للسماء والأرض فضلاً عن بكاء سكانهما على سيِّد الشهداء عليه السلام حجَّةً قطعية على الجاحدين لبكاء المؤمنين الموالين على مصائب ذاك الإمام الهمام أرواحنا له الفداء...والتعبير الوارد في الأخبار المتقدمة إنما هو بلفظ:« السماء والأرض » بمعنى أن لفظ « السماء » مفرد وليس كلّ السماوات، والمراد منها السماء الأرضية وليست السماوات السبع بما فيها من جنان ونيران ومملائكة وأنبياء وحور ...ولعلَّ الإفراد بلفظ المفرد لأجل مشاركة النبي زكريا للإمام الحسين عليه السلام (وروحي فداه) في بكاء صنف من السماوات دون بكاء بقية السماوات السبع والأرضين السبع الخاص بمولى الأنبياء والمؤمنين سيِّد الشهداء وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام حيث دلت الأخبار المتواترة بأن السماوات والأرض وحميع ما خلق الله تعالى قد بكى على سيّد الشهداء أرواحنا له الفداء(عليه السلام)  وقد روى جملةً منها المحدّث الجليل ابن قولويه القمي في كامل الزيارات الباب السادس والعشرين وبحار الأنوار ج 45 ص 219 وأمالي الصدوق ص 110 وعلل الشرائع ج 1 ص 223 ح 3؛ فلتراجع من مظانها ....وتمييز الإمام الأعظم سيِّد الشهداء صلى الله عليه وآله عن النبي زكريا عليه السلام ببكاء عامة المخلوقات الوجودية الحاضرة والغائبة راجع حقيقةً إلى الخصوصية التي يمتاز بها الإمام العظيم الحسين بن علي أمير المؤمنين عليهما السلام وهي خصوصية الأفضلية والقرب من الله تعالى وعلو منزلة الإمام سيِّد الشهداء مع آبائه المطهرين وأخواته الطاهرات كمولاتنا المعظمة زينب الحوراء ثم أختها أُم كلثوم عليهما السلام ، وإخوانه الطاهرين ـ كالمولى المعظم أبي الفضل العباس عليه السلام على وجه الخصوص ـ عليهم السلام على الأنبياء والمرسلين عدا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لأنه نفسهم وهم نفسه بنصِّ آية التطهير والأخبار الشريفة نظير « علي مني وأنا من عليّ » « وفاطمة مني..ونفسي وروحي التي بين جنبيَّ ومهجة كبدي » « حسنٌ مني وأنا منه » « حسين مني وأنا من حسين »....مع التأكيد على أن الإمام مبعوث من عند الله تعالى وهو أعلى منزلة من الأنبياء بحسب المقام الربوبي للإمام عليه السلام، ومنزلة الإمامة أعظم من منزلة النبوة حسبما فصلناه في بحوثنا الأخرى لا سيَّما كتابنا:( الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية )؛ والمجال لا يسعنا للتفصيل في تفضيل الإمام عليه السلام على الأنبياء فليراجع كتابنا المتقدِّم الذكر.
* الإيراد على من ادَّعى أن بكاء السماء والأرض  إنما هو بكاء مجازي*
  ما أشرنا إليه أعلاه من الأخبار الشريفة حول بكاء السماء والأرض على النبي زكريا والإمام الأعظم سيِّد الشهداء عليهما السلام كافية ووافية في قصم ظهور البتريين المشككين في البكاء على مصائب سيِّدنا الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام وبقية أهل البيت عليهم السلام... وليس بكاء السماوات والأرض بكاءً مجازياً كما صوّر بعضهم، متأولاً بكاءهما على المعنى المجازي: وهو أن أهل السماء والأرض هم الباكون لا السماء والأرض بما هما جمادان بالحمل الأولي، وذلك لحيثيتين هما الآتي:
 (الحيثية الأولى): إن الأخبار القطعية الصدور دلت بوضوح على بكاء السماوات والأرض على الإمام المظلوم عليه السلام، وهو متعين في البكاء الحقيقي لا المجازي، لا سيَّما بقرينة ما ورد فيها من إمطار السماء دماً وما رفع حجرٌ إلا وجد تحته دم عبيط...وأن الشمس انكسفت وأن القمر خسف وأن الكون قد تغيَّر، وقد هبت ريح سوداء وأظلم الكون عند شهادة المولى المعظم سيّد الشهداء عليه السلام.. فهذه ألفاظ لا يمكن حملها على المجاز ابداً وإلا فإن من يحملها على المجاز لا يعرف شيئاً من معاني المجاز والحقيقة في علم البديع والبلاغة... 
 (الحيثية الثانية): إن حمل بكاء السماوات والأرض على الإمام الحسين عليه السلام على المعنى المجازي ـ كما صوَّر هؤلاء الغافلون ـ يحتاج إلى قرينة صارفه له عن المعنى الحقيقي، وهي مفقودة في البَين، بل إن حملها على المجاز منافٍ للظهور العرفي واللغوي، وذلك لأمرين:
  الأول: عدم وجود قرينة تصرف اللفظ من معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي كما هو معروف في علم البلاغة عند العرب، ومتداول في محاوراتهم وخطاباتهم العلمية والأدبية، وبهذا عمل الفقهاء من أعلام الطائفة إلى يومنا هذا.
  الثاني: وجود قرائن قطعية في ضمن الأخبار الدالة على البكاء الحقيقي، تصرفها عن المعنى المجازي، على فرض ظهورها في المعنى المجازي، وهي قرائن تؤكد المعنى الحقيقي للبكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام.
  وفي حال طرأ الشك في المعنى الحقيقي - كما هو الحال عند السفسطائيين الذين لا يؤمنون بالأخبار الغيبية الربوبية - فإن الأصل العقلائي واللغوي يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي، لأن الأصل الأولي في الألفاظ هو كونها معانٍ حقيقية صرفة، حتى يردنا قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، وهكذا الحال في مقامنا المتعلق بحقيقة بكاء السماوات والأرض على سيِّد الشهداء عليه السلام فإنه لو دار الأمر بين حمل بكاء السماوات والأرض على المعنى الحقيقي أو المجازي، لا بدَّ لنا من الحمل على المعنى الحقيقي لا المجازي ، فالمقتضي لحمل بكاء السماوات والأرض على المعنى الحقيقي موجودٌ، والمانع منه مفقود، فلا يجوز - والحال هذه - الحمل على المعنى المجازي الذي ادّعوه واختلقوه إفكاً وزوراً...!.
  المحصَّلة في الوجه الثالث: إن البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام ليس مخالفاً للصبر المأمور به شرعاً، كما أن بكاء السماوات والأرض على مولانا الإمام الحسين عليه السلام ليس بكاءً مجازياً بل كان بكاءً حقيقياً للكائنات على الإمام العظيم سيّد الشهداء عليه السلام الذي لأجله خلق الله الكبير المتعال المخلوقات كلّها باعتبار أن الإمام الحسين عليه السلام هو العظيم الذي ضحى بكلّ ما لديه في سبيل مرضاة الله تعالى...كلّ ذلك على قاعدة الحديث القدسي: « لولاك لما خلقتُ الأفلاك » « ونحن صنايع ربّنا والخلق من بعد صنائع لنا ».
 (الوجه الرابع): إن البكاء على المصائب - غير مصائب أهل البيت عليهم السلام - في أكثر موارده يكون بكاءَ جزعٍ يخالف قضاءَ الله وقدره، باعتباره اعتراضاً على قدر الله وقضائه، ويعتبر حالةً من الإنهيار والتذمر والإنكسار... أما لو كان خالياً من الجزع الذي أوضحنا معناه، ولم يكن مخالفاً لقدر الله وقضائه فلا إشكال فيه، ومن هذا القبيل البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام فإنه مستحب وإن تضمن الجزع لكنَّه جزع وتذمر من الأعداء الذين انتهكوا حرمة سيِّد الشهداء عليه السلام ولا يعتبر انهياراً وانكساراً وبالتالي لا يكون اعتراضاً على قضاء الله وقدره...بل هو ذروة الإرادة للتخلق والاتصاف بالفضائل والمشاعر الجياشة والحمية لسيِّد الشهداء عليه السلام...كما أنه يعتبر نوعاً من شحذ الهمم للإنتقام من الظالمين والاستعداد لنصرة أئمة الدين والتهيئة لنصرة الإمام الحجة القائم أرواحنا له الفداء بحسب ما فصلناه في بحثنا حول الشعائر الحسينية في كتابينا المشهورَيْنِ: ردّ الهجوم ـ والشعائر الحسينية .
 وبالجملة: إن الأخبار الشريفة قد نهت عن كلِّ جزعٍ ما خلا الجزع على سيِّد الشهداء عليه السلام فإنه مستحب شرعاً للنكتة العلمية التي أشرنا إليها آنفاً، ففي الصحيح عن ابن قولويه القمي رحمه الله باب 32 من أبواب ثواب من بكى على الإمام الحسين بن أمير المؤمنين علي عليهما السلام، بإسناده عن أبيه عن سعد ابن عبد الله ، عن أبي عبد الله الجاموراني ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سمعته يقول :« إن البكاء والجزع مكروه للعبد في كل ما جزع ما خلا البكاء على الحسين بن علي عليهما السلام فإنه فيه مأجور ».
  وفي صحيحة مسمع بن كردين المروية في كامل الزيارت بإسناده عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن علي بن محمد بن سالم ، عن محمد بن خالد ، عن عبد الله بن حماد البصري ، عن عبد الله بن عبد الرحمان الأصم ، عن مسمع بن عبد الملك كردين البصري قال : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : يا مسمع أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين ( عليه السلام ) ، قلت : لا، أنا رجل مشهور عند أهل البصرة ، وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وعدونا كثير من أهل القبائل من النصاب وغيرهم ، ولست آمنهم ان يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي.
قال لي : أفما تذكر ما صنع به ، قلت : نعم ، قال : فتجزع ، قلت : إيْ والله واستعبر لذلك حتى يرى أهلي اثر ذلك علي فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي ، قال : رحم الله دمعتك ، أما أنك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا آمنا ، أما أنك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيتهم ملك الموت بك وما يلقونك به من البشارة أفضل ، وملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الام الشفيقة على ولدها .
قال : ثم استعبر واستعبرت معه ، فقال : الحمد لله الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصنا أهل البيت بالرحمة ، يا مسمع ان الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رحمة لنا ، وما بكى لنا من الملائكة
أكثر وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا ، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا الا رحمه الله قبل ان تخرج الدمعة من عينه ، فإذا سالت دموعه على خده فلو ان قطرة من دموعه سقطت في جهنم لاطفأت حرها حتى لا يوجد لها حر ، وان الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض ، وان الكوثر ليفرح بمحبنا إذا ورد عليه حتى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي ان يصدر عنه . يا مسمع من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ولم يستق بعدها أبداً ، وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل ، أحلى من العسل ، وألين من الزبد ، وأصفى من الدمع ، وأذكى من العنبر ، يخرج من تسنيم ويمر بأنهار الجنان ، يجري على رضراض الدر والياقوت ، فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء ، يوجد ريحه من مسيرة الف عام ، قدحانه من الذهب والفضة وألوان الجوهر ، يفوح في وجه الشارب منه كل فائحة حتى يقول الشارب منه : يا ليتني تركت هاهنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه تحويلا .
أما أنك يا كردين ممن تروى منه ، وما من عين بكت لنا الا نعمت بالنظر إلى الكوثر وسقيت منه من أحبنا ، وإن الشارب منه ليعطي من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يعطاه من هو دونه في حبنا ، وان على الكوثر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وفي يده عصا من عوسج يحطم بها أعداءنا ، فيقول الرحل منهم : اني اشهد الشهادتين ، فيقول : انطلق إلى امامك فلان فاسأله ان يشفع لك ، فيقول : يتبرأ مني امامي الذي تذكره ، فيقول : ارجع إلى ورائك فقل للذي كنت تتولاه وتقدمه على الخلق فاسأله إذا كان خير الخلق عندك ان يشفع لك ، فان خير الخلق حقيق ان لا يرد إذا شفع ، فيقول : اني أهلك عطشا ، فيقول له : زادك الله ظمأ ، وزادك الله عطشا . قلت : جعلت فداك وكيف يقدر على الدنو من الحوض ولم يقدر عليه غيره ، فقال : ورع عن أشياء قبيحة وكف عن شتمنا أهل البيت إذا ذكرنا ، وترك أشياء اجترى عليها غيره ، وليس ذلك لحبنا ولا لهوى منه لنا ، ولكن ذلك لشدة اجتهاده في عبادته وتدينه ولما قد شغل نفسه به عن ذكر الناس ، فأما قلبه فمنافق ودينه النصب باتباع أهل النصب وولاية الماضين وتقدمه لهما على كل أحد.
    وفي الأمالي للشيخ الطوسي رحمه الله بإسناده عن أبيه ، عن المفيد ، عن ابن قولويه ، عن أبيه ، عن سعد ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي محمد الأنصاري ، عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في حديث قال : كلّ الجزع والبكاء مكروهٌ إلا الجزع والبكاء لقتل الحسين ( عليه السلام ).
  وبالجملة: إن الإستثناء الوارد في صحيحة معاوية بن وهب ليس استثناءً متّصلاً ، بل هو استثناء منقطع،  لأنّ الجزع بشكلٍ عام ـ حسبما قدَّمنا ـ هو نوع اعتراض على تقدير الله ويعتبر حالةً من الانهيار والتذمّر والانكسار، أمّا الجزع على سيِّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام فليس اعتراضاً على قضاء الله وقدره ، بل العكس هو الصحيح حيث يعتبر البكاء على سيِّد الشهداء عليه السلام نوعاً من الاعتراض على ما فعله أعداء الله تعالى به صلوات ربي عليه، ولم تكتفِ النصوص في استحباب الجزع على سيّد الشهداء عليه السلام فحسب بل تخطته إلى الجزع عموماً على أهل البيت عليهم السلام، ويدخل ضمنه الجزع على مولاتنا الحوراء الصدّيقة الصغرى زينب وأختها أم كلثوم والمولى أبي الفضل والقاسم وعبد الله الرضيع والمولى علي الأكبر ورقية وغيرهم من أولاد العترة الطاهرة عليهم السلام باعتبارهم من أبرز مصاديق مفهوم أهل بيت العصمة والطهارة سلام الله عليهم....فهؤلاء العظماء لا يقاسوا بغيرهم من خلق الله تعالى لما ورد في الخبر المستفيض « إنَّا أهل بيتٍ لا يُقاسُ بنا أحدٌ ». فإن الجزع عليهم صلوات الله عليهم هو نوع اعتراض على ما فعله بهم الظالمون المستكبرون... والجزع عليهم صلوات ربي عليهم من أبرز مصاديق التسليم لله تعالى والإعتراض على أعداء الله تعالى... كما أن الجزع مأخوذ فيه اللطم على الوجه والصدر وما شابه ذلك وهو محرَّم فعله على غير المعصوم عليه السلام حسبما تقدم من الصحاح التي استعرضنا جملةً منها، فإن مورد تلك الصحاح إنما هو الحزن الشديد المستلزم للبكاء واللطم على الوجه والصدر...
    وبعبارةٍ أُخرى: إن المراد بالجزع هو: فعل ما يقع من الجازع من لطم الوجه والصدر والصراخ ونحوها ، ولو بقرينة ما رواه جابر عن إمامنا المعظم محمد الباقر ( عليه السلام ) : « أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر..» إلى آخره.
    مضافا إلى السيرة في اللطم والعويل ونحوهما مما هو حرام قطعاً في غير مصائب أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام ، حيث نهت الأخبار الشريفة المؤمن أن يشق جيبه ويخمش خده أو صدره على عزيزٍ افتقده، واستثنت الأخبار من ذلك ما يفعله المؤمن الموالي على مصائب آل الله تعالى؛ بمقتضى الصحاح المتقدمة التي استثنت الجزع على أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، فتأمل .
 (الوجه الخامس): ثم إنه لا ريب في جواز البكاء على الميت نصاً وفتوى للأصل ، والأخبار التي لا تقصر عن التواتر المعنوي من بكاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عمّه حمزة وابنه إبراهيم ( عليهما السلام )  وغيرهما، وبكاء سيّدتنا الصدّيقة الكبرى فاطمة ( عليها السلام ) على أبيها وأختها وكذلك بكاء الإمام المعظم علي بن الحسين( عليهما السلام ) على أبيه حتى عُدَّ هو ومولاتنا المعظمة السيّدة الكبرى فاطمة الزهراء ( عليهما السلام ) من البكائين الأربعة ، إلى غير ذلك مما لا حاجة لنا بالإستفاضة فيه لوضوحه عند المتشرعة ، بل يظهر من بعض الأخبار استحبابه عند اشتداد الوجد ، وقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة المروية عن أمالي الحسن بن محمد الطوسي : « كل الجزع والبكاء مكروه ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام». فإنه محمول على ضرب من التأويل كما أشرنا سابقاً .
 وأما ما روي في الأخبار الشاذة من أن الميت يعذب ببكاء أهله؛ فمع الطعن فيها بكونها من روايات العامة باعتبارها مرويةً عن عائشة أولاً،  وبوهم الراوي واشتباهه ثانياً ، وقصورها عن معارضة غيرها من وجوه عديدة ثالثاً ، ومنافاتها للعقل والنقل على أن لا تزر وازرة وزر أخرى رابعاً ، إلى غير ذلك من وجوه الطعن فيها مما أجاد به يراع الشهيد الأول العاملي رحمه الله في الذكرى في الكلام عليها ، ومثله في البطلان ما ورد في بعض الأخبار الدالة بظاهرها على النهي عن البكاء على الميت من غير المعصومين، فإنها تحمل على المشتمل على علو الصوت والشق واللطم أو المتضمن للجزع وعدم الرضا بقضاء الله تعالى أو غير ذلك ، كما في الأخبار إشارة إليه حيث اعترض على النبي ( صلى الله عليه وآله ) في بكائه على إبراهيم بأنك قد نهيت عن البكاء : فأجاب صلى الله عليه وآله بقوله:« تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وإنَّا بك يا إبراهيم لمحزونون ) .
    فقد جاء في البخاري ومسلم عن أنس : دخلنا على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وإبراهيم يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله ؟. فقال : ( يا بن عوف انها رحمة ) ثم اتبعها بأخرى . فقال : « إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وانا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون » .
  وفي الكافي للكليني رحمه الله : عن ابن القداح عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( لما مات إبراهيم هملت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بالدموع ، ثم قال ( صلى الله عليه وآله ) : تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الرب ، وانا بك يا إبراهيم لمحزونون ) .
  وروى الشهيد الأول العاملي أعلى الله مقامه بإسناده عن الحارث بن يعلى بن مرة ، عن أبيه ، عن جده ، قال :[ قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فستر بثوب وعلي عند طرف ثوبه ، وقد وضع خديه على راحتيه ، والريح تضرب طرف الثوب على وجه علي ، والناس على الباب وفي المسجد ينتحبون ويبكون ». 
   قال الشيخ الصدوق : لما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من وقعة أحد إلى المدينة ، سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحاً وبكاءً ، ولم يسمع من دار حمزة عمه ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : (لكن حمزة لا بواكي له ) . فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولا يبكوه ، حتى يبدؤا بحمزة فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم إلى اليوم على ذلك . ولما جاء في النصوص الكثيرة من بكاء أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على الصدّيقة الكبرى مولاتنا فاطمة عليها السلام .
   وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( من خاف على نفسه من وجد بمصيبة فليفض من دموعه ، فإنه يسكن عنه ) . وعنه ( عليه السلام ) : ( ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) وزيد بن حارثة رضي الله عنه كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً ، ويقول : كانا يحدثاني ويؤنساني فذهبا جميعاً ) .
  وروى الشيخ في التهذيب بالسند إلى محمد بن الحسن الواسطي ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( إن إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته ) .
   ولا يكره عندنا البكاء بعد الموت . وقول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : ( فإذا وجبت فلا تبكين باكية قالوا : وما الوجوب يا رسول الله قال : الموت. ويحمل على رفع الصوت بالبكاء ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما بكى وقال عبد الرحمن : أو لم تكن نهيت عن البكاء ، قال : لا ، ولكن نهيت عن صوتين فاجرين : صوت عند مصيبة ، خمش وجوه ، وشق جيوب ورنة شيطان ). وفي صحيح مسلم : ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) زار قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله] . انتهى كلامه رحمه الله.
  نقول: الخبر الذي رواه الشهيد عن العامة ( فإذا وجبت...) وإن كان عامياً لا نحتاج إلى تجشم تأويله، إذ لا خير في أخبارهم، ولكن  قد ورد قريب منه في مصادرنا بطريقنا عن الإمام الصادق عليه السّلام - على ما في الكافي - إنه لما مات إبراهيم هملت عينا رسول اللَّه بالدموع ثم قال صلَّى اللَّه عليه وآله:« تدمع العين وتحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون » لكن الأولى حمله وحمل ما في معناه من النهي عن البكاء على البكاء المشتمل على علو الصوت الخارج عن الاعتدال فلا كراهة فيما يشتمل على الصوت المتعارف أو يحمل على البكاء المؤدي إلى الاعتراض على قضاء الله وقدره، وأما في غير ذلك فلا كراهة.
 والحاصل: إن الأخبار الناهية عن البكاء والنوح المستلزم لعدم الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره.. خارجةٌ تخصصاً وتخصيصاً عن جواز البكاء على الميت مطلقاً...ولعله من جواز البكاء يستفاد جواز النوح عليه أيضاً لملازمته له غالباً ، مضافاً إلى الأخبار المستفيضة المعمول بها في المشهور بين أصحابنا،  بل في المنتهى للعلامة الحلي الاجماع على جواز النوح إذا كان بحقٍ ، كالاجماع على حرمته إذا كان بباطل ، وروي في الصحيح « أن [ مولاتنا المعظمة ] فاطمة ( عليها السلام ) ناحت على أبيها ، فقالت : يا أبتاه من ربه ما أدناه ، يا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه ، يا أبتاه أجاب ربا دعاه ». كما روي عن أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ): « أنها عليها السلام أخذت قبضة من تراب قبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) فوضعتها على عينها ثم قالت :
ماذا على المشم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام صرن لياليا
   وروي أيضاً « أن أم سلمة ندبت ابن عمها المغيرة بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد أن استأذنت منه للمضي إلى أهله ، لأنهم أقاموا مناحة وقالت :
أنعى الوليد بن الوليد * أبا الوليد فتى العشيرة
حامي الحقيقة ماجدا * يسمو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثا في السنين * وجعفرا غدقا وميرة
وعن الإمام المعظم الصادق ( عليه السلام ) في الصحيح أنه " قال أبي عليه السلام : يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى " وقد يستفاد منه استحباب ذلك إذا كان المندوب ذا صفات تستحق النشر ليقتدى بها .
 وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما انصرف من وقعة أُحد إلى المدينة سمع من كل دار قتل من أهلها قتيل نوحاً ، ولم يسمع من دار عمه حمزة ، فقال ( صلى الله عليه وآله ) : « لكن حمزة لا بواكي له فآلى أهل المدينة أن لا ينوحوا على ميت ولا يبكوه حتى يبدأوا بحمزة وينوحوا عليه ويبكوا ، فهم إلى اليوم على ذلك».... إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الصريحة في المطلوب ، يرجى التأمل.
  وبما تقدّم منا : ينحل الإشكال المتوجه إلى البكاء بدعوى أنه مخالف للصبر والتسليم...إذ لو كان مخالفاً للصبر والتسليم لما صح لنبي الله يعقوب عليه السلام البكاء على ابنه النبي يوسف عليه السلام، وكذلك لما صح بكاء النبي وأهل بيته الطاهرين من أهل الكساء عليهم السلام على الإمام الحسين عليه السلام وهو حيٌّ، وكذلك بكاء بقية أهل البيت عليهم السلام على الإمام الحسين عليه السلام....إلى آخر ما ذكرنا بشكلٍ تفصيلي.
  إشكالٌ آخر وحلٌّ:
مفاد الإشكال بالتقرير الآتي: ذكر المعترضون على بكاء الشيعة الموالين على سيّد الشهداء وغيره من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام بأن البكاء مخالفٌ للخُلُق القرآني الكريم الآمر بوجوب الصبر عند حلول المصيبة بمقتضى قوله تعالى ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون...) وإذا تعارضت الأخبار مع القرآن، وجب تقديم القرآن على الأخبار، وبالتالي لا يبقى للأخبار موضوعية في البين، فينتفي استحباب البكاء على فقدان الأحباء بسبب التعارض بين الكتاب والأخبار...!.
الجواب من وجوهٍ هي الآتي:
(الوجه الأول): إن المعترض لم ينظر في القرآن الكريم بعين البصيرة من خلال التدبر في عامة آياته بشكلٍ علميٍّ منتظمٍ، فأخذ بآية من دون النظر إلى الآيات الأُخر...فكان اختياره انتقائياً كما تراءى له وهمه وخياله، يريد به الطعن في حقيقة البكاء، فحكم بالنظرة البَدْوية على سلبية البكاء وأنه خلاف خُلُق القرآن الكريم مع أن دعواه هي المعارضة حقيقةً للقرآن الكريم وذلك بسبب اعتماده على آيةٍ كريمة متشابهة المعاني عند من لا يحسن التدبر في كتاب الله تعالى ضارباً آية بكاء نبيّ الله يعقوب عليه السلام عرض الجدار... فآية بكاء النبي يعقوب عليه السلام محكمة من حيث الدلالة بينما آية الاسترجاع متشابهة بمعناها التام وهي تحتاج إلى تأويل لكي تلتئم مع آية بكاء يعقوب عليه السلام، وقد جاء في تفسيرها بوجوب الصبر عند حلول المصيبة، ومعنى الصبر هو أن لا يعترض المصاب على قضاء الله تعالى وقدره، بل يسلِّم أموره لخالقه المالك الحقيقي لما ملكه العبد بالملك الاعتباري المجازي... وهذا لا يمنع من حزن القلب ودموع العينين حال فقدان الأحبة..فأين التعارض يا تُرى..؟!.
 وبعبارةٍ أُخرى: لو كان البكاء متعارضاً مع قوله تعالى (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون) لما كان من الصواب عند أعلام الامامية - تبعاً لأئمتهم الطاهرين عليهم السلام - الإستدلال بآية بكاء النبيِّ يعقوب عليه السلام على ولده النبيِّ يوسف عليه السلام بقوله تعالى في سورة يوسف الآية الرابعة والثمانين: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) وابيضاض عينيه لم يكن لمجرد الحزن من دون بكاء بل الآية عبرت عن البكاء بالحزن الملازم له، وهو ما دلت عليه الأخبار...فقد بكى بكاء سبعين ثكلى كما جاء في الخبر الشريف مع أنه من أبرز الأنبياء المتوكلين على الله تعالى والصابرين المحتسبين بمقتضى قوله تعالى في موضعين من نفس السورة وهما، الآية 18 ـ 83:
  (الأول):(وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ).
  (الثاني): (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
 الآيات المتعلقة بالنبي يعقوب عليه السلام تشير إلى أنه عليه السلام كان بكّاءً وفي الوقت نفسه كان صابراً ومحتسباً، فبكاؤه لم يخرجه من الصبر والإحتساب وإلا لكان قانطاً معترضاً على حكم الله تعالى بتغييب ولده عنه وهو خلف كونه نبياً معصوماً طاهراً مسدداً، ففعله كنبيٍّ مرسل من عند الله تعالى هو حجَّةٌ شرعيةٌ عندنا نحن المسلمين الشيعة ولم يدَّع أحدٌ من أعلام الامامية بأن فعله منسوخ بحرمة البكاء على فقدان الأحبة والأعزاء، فلا توجد آيةٌ محكمةٌ ولا خبرٌ يشير إلى نسخ حكم البكاء على الأحباب من شريعة الإسلام .
  ويدل على عدم النسخ ما ورد في أخبارنا الشريفة من استدلال أئمتنا الطاهرين عليهم السلام على استحباب البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام بما جرى على نبي الله يعقوب عليه السلام...ولو لم يكن بكاء يعقوب عليه السلام تشريعاً إلهياً كليَّاً في استحباب البكاء على الأولياء والأحباء من دون تقييد بزمان ومكان، لكانت الآية اليعقوبية بحكم المعدوم ولكان العمل بها ملغياً وتشريعها في الكتاب عبثياً، ولم يكن من الجائز شرعاً أن يستدل بها أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام وإلا لكان ذلك تشريعاً في مقابل تشريع الله تعالى.. وحاشا لله تعالى أن يأمر بالعبث أو يشرّع للناس الأحكام العبثية على لسان حججه الطاهرين عليهم السلام..يرجى التأمل. 
 (الوجه الثاني): إن كثرة الأخبار حول استحباب البكاء على سيِّد الشهداء وغيره من أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام يستحيل أنْ تكون مكذوبة عليهم بسبب تعارضها البَدْوي مع آية( إنَّا لله وإنّضا إليه راجعون) وإلا لأدَّى ذلك إلى تكذيب بقية الأخبار الكاشفة عن الأحكام الفرعية الأخرى لمجرد عدم قبولها عقلاً لغايات دنيوية، أو لمجرد تعارضها البَدْوي مع آية مجملة بحاجة إلى تدبر وفحصٍ عن المعارض لها أو المفسر لدلالتها ....!.
 (الوجه الثالث): لا يجوز شرعاً طرح الأخبار الكثيرة الدائرة حول استحباب البكاء على مصائب العظام من آل محمد عليهم السلام ورميها بالكذب لأجل آية مجملة الدلالة على المطلوب مع وجود آية أخرى تثبت استحباب البكاء على فقدان الأحبة والأعزاء...وإلا لعدَّ ذلك تبعيضاً في تلقي الأحكام من كتاب الله تعالى فيأخذ المتلقي المشكك ببعض الكتاب ويترك البعضَ الآخر كما يفعل اليهود على قاعدة قوله تعالى (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ).
 وهؤلاء المبعّضون للكتاب مصداق تام لقوله تعالى (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ).
 وبعبارةٍ أُخرى: عندما تكون الآية مجملة من حيث البيان مع وجود آية أخرى محكمة البيان، لا يجوز تقديم المجملة على المحكمة وجعلها مناطاً في طرح الأخبار المتوافقة مع الآية المحكمة، ومن هذا القبيل آية الإسترجاع المعارضة بحسب الظاهر لأخبار البكاء إلا أنها متوافقة مع آية بكاء يعقوب عليه السلام، فلا يجوز طرح تلك الأخبار المؤيدة لآية البكاء بحجة أن المؤمن لا يبكي لأن الله تعالى أمره بالإسترجاع...فهذا كلام لا يصدر من عاقلٍ، فضلاً عن مؤمنٍ عادي أو عالمٍ فقيه....!. 
   وبعبارةٍ ثانية: إن الأخبار الدالة على استحباب البكاء تتوافق مع آية بكاء النبيّ يعقوب عليه السلام ولا تعارضُ آيةَ الإسترجاع كما أوضحنا سابقاً فأين التعارض - إذاً - يا أُولي الألباب..؟!.
  (الوجه الرابع): اتفقت الأُمة عن بكرة أبيها على أن النبيَّ وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام قد بكوا على مصائب أحبتهم، فالنبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله قد بكى على ولده إبراهيم وعمّه حمزة وابن عمه جعفر الطيار، ومولاتنا الصدّيقة الكبرى قد بكت على أبيها كثيراً وبكاه كذلك أمير المؤمنين عليهما السلام... وهكذا بكى أولاده الطاهرون عليهم السلام على مصائب سيّد الشهداء عليه السلام كمولاتنا الصدّيقة الصغرى الحوراء زينب وأُم كلثوم وبقية بنات أمير المؤمنين وأزواجه، ولم يفسّر أحدٌ من المسلمين بأن بكاءهم كان مخالفاً للصبر الذي أمر به الله تعالى...بل كان بكاؤهم عين الصبر والتسليم لأنهم لم يعترضوا على حكم الله تعالى، ونابعاً من الأحاسيس والعواطف الإنسانية والتضامن مع تلك الجسوم الطواهر وأهداف أصحابها، فلم يبدوا اعتراضاً على قضاء الله وقدره، ويشهد له ما صدر من مولاتنا الصدّيقة الكبرى الحوراء زينب سلام الله عليها في جوابها للملعون عبيد الله بن زياد، الذي توجه إليها بقوله المشؤوم : كيف رأيتِ صُنعَ الله بكِ وبأهل بيتكِ..؟! فقالت عليها السلام: « ما رأيتُ إلا جميلاً » فقد كانت تُبدي استنكارَها من عِظَم الفجيعة على مصائب إخوتها الميامين عليهم السلام من قبل أولئك الظالمين لعنهم الله تعالى، وقد أحاطتها هالة من الحُزن والأسى والبكاء ما لم يعلم مداه إلا رب العباد وسفراؤه من الحجج الطاهرين عليهم السلام.
   بما تقدَّم منا: يكون الصبر على نحوين: ممدوح ومذموم؛ فالممدوح ما كان موافقاً للتسليم لإرادة الله تعالى وعدم الاعتراض على قضائه وقدره؛ بل هناك درجة أرقى من الصبر وهي أن يحب المؤمن العارف ما يقضيه الله تعالى له؛ والمذموم ما كان على نحو الاعتراض على الله تعالى، ولا ريب في أن الاعتراض أمر سلبيّ، لأنّه من الضعف وعدم الصمود أمام المحن والمصائب ودلالة الطيش العقلي والروحي ، وعَدم رباطة الجأش ، فالصبر في موضع الرضا بقضاء الله تعالى هو صبر ممدوح وفي غيره مذموم...والمتدبر في نصوص نهج البلاغة يجد نماذج عملية حول الصبر الممدوح والمذموم نقتبس منها ثلاثة، اثنان منها حول الصبر الممدوح، وواحد حول المذموم، هي الآتي:
 ( النموذج الأول الممدوح): صبر المسلمين في جهادهم للكافرين والنواصب مع توفر الشروط الموضوعية - كالعُدَّة والعدد وعدم التقية - فإنه ليس موضعاً للصبر، لأنّ الواجب عليهم هو الردّ وحفظ حقوقهم وكرامتهم والدفاع عن معالم دينهم كما في قوله تعالى:( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ )، فالصبر في هذا المورد ليس من مواضع الصبر بل هو من مواضع الخذلان والتقاعس والنقمة والمذلة على حدِّ تعبير أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة محرضاً أصحابه على قتال معاوية وأصحابه لمّا غلبوا على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء فقال عليه السلام:« قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وتَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ - والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ - أَلَا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ، وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ ».
    (النموذج الثاني الممدوح): ما ورد في خطبةٍ طويلة له حول الفتنة في البصرة سأله بعدها رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وآله – عنها ؟ فقال عليه السلام:« إِنَّه لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَه قَوْلَه:( ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا ورَسُولُ اللَّه ( صلى الله عليه وآله ) بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّه تَعَالَى بِهَا، فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّه: أَولَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ ؛ فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ، فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً ؟ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ ، ولَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى والشُّكْرِ، وقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ ويَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ  ويَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَه ويَأْمَنُونَ سَطْوَتَه ويَسْتَحِلُّونَ حَرَامَه بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ والأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ والسُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ والرِّبَا بِالْبَيْعِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّه فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ..».
   (النموذج الثالث المذموم): حيث ورد في مقامٍ آخر من النهج البلاغي العلوي في خطبة له ( عليه السلام ) وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا . وفيها يذكر فضل الجهاد، ويستنهض الناس، ويذكر علمه بالحرب، ويلقي عليهم التبعة لعدم طاعته، فقال عليه السلام:« أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَه اللَّه لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه وهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، ودِرْعُ اللَّه الْحَصِينَةُ وجُنَّتُه الْوَثِيقَةُ؛ فَمَنْ تَرَكَه رَغْبَةً عَنْه أَلْبَسَه اللَّه ثَوْبَ الذُّلِّ وشَمِلَه الْبَلَاءُ،  ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَةِ، وضُرِبَ عَلَى قَلْبِه بِالإِسْهَابِ، وأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْه بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ، وسِيمَ الْخَسْفَ ومُنِعَ النَّصَفَ؛ أَلَا وإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا ونَهَاراً وسِرّاً وإِعْلَاناً، وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللَّه مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ وتَخَاذَلْتُمْ، حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ  ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ، وهَذَا أَخُو غَامِدٍ [ و ] قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُه الأَنْبَارَ، وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ،  وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا، ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ، عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وقُلُبَهَا وقَلَائِدَهَا ورُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْه إِلَّا بِالِاسْتِرْجَاعِ والِاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ، مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً، مَا كَانَ بِه مَلُوماً بَلْ كَانَ بِه عِنْدِي جَدِيراً، فَيَا عَجَباً عَجَباً واللَّه يُمِيتُ الْقَلْبَ ويَجْلِبُ الْهَمَّ - مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ - وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ - فَقُبْحاً لَكُمْ وتَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى، يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِيرُونَ، وتُغْزَوْنَ ولَا تَغْزُونَ ويُعْصَى اللَّه وتَرْضَوْنَ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ، قُلْتُمْ هَذِه حَمَارَّةُ الْقَيْظِ، أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ، وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ، قُلْتُمْ هَذِه صَبَارَّةُ الْقُرِّ ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ  كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ، فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ، فَأَنْتُمْ واللَّه مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ..».
  النصوص الشريفة المتقدمة واضحة المراد في تقسيم الصبر إلى ممدوح ومذموم، والأولان دالان على الصبر والشكر، والنص الثالث واضح في بيان الصبر المذموم الدال على تخاذل المسلمين عن أداء الواجب الجهادي المتوجب عليهم للحفاظ على كراماتهم التي هدروها تقصيراً حباً للدعة والسكون ولم تحركهم الغيرة والحمية على النساء...فالنص الأول قد أمر عليه السلام فيه بتروية السيوف من الأعداء الذين منعوهم من الماء في صفين، والنص الثاني يشير به إلى نفسه الشريفة حيث كان يتمنى الشهادة وهي عنده من مواطن الشكر ونفى أن تكون من مواطن الصبر ...لأن الصبر إنما يكون  بتحمل المشاق على النفس، فهي تنازعه حباً للبقاء، بينما تمني الشهادة تعني حبَّ السفر إلى الله تعالى من دون منازعة النفس للبقاء في الدنيا...هذا هو الفارق الحقيقي بين الصبر على تحمل المشاق وبين الشكر في تمني الشهادة حيث تشتاق النفس العارفة بالله تعالى لقاءَه والتضحية في سبيله ولوجهه تعالى، فتهون أمام صاحبها كلّ الصعوبات والمصائب، فيشكر شهيدُها اللهَ تعالى على ما رزقه من نعمة التسليم العظمى التي لا يمكن للبشر العاديين أن يعرفوا قيمتها.... 
 وفيما تقدم: يتبيّن بأنّ الصبر ليس راجحاً في كلّ مورد، بل الصبر بلحاظ ظرفه وجهته يكون ممدوحاً أو حسناً . . وإلا قد يكون خلاف ذلك . . فمن ثمّ قد يكون إيجابيّاً أو سلبيّاً فلا بدّ أن يُقسَّم الصبر إلى مذموم ، وإلى محمود ... من هذا المنطلق يكون الصبر وتحمّل المصيبة هو درجة دنيا من درجات توطين النفس على التسليم، والباكي لا يخرج ببكائه عن صبره ما دام مسلِّماً لله تعالى أمره ، وثمة حالة أرقى من ذلك وهي الإحساس بعذوبة تقديره سبحانه وبحلاوة قضائه فيجسّد درجة أرقى في الصبر في مواطن مواجهة الأعداء. . فتكون مورداً للرضا وللشكر كما أشار الإمام الأعظم أسد الله الغالب مولانا علي بن أبي طالب عليهما السلام في النص الثاني بقوله الشريف:(لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ ، ولَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى والشُّكْرِ ) ; وهذه الحالة لا تنافي الصبر بل تزيد عليه فضيلة.... 
   وإذا كان الصبر معناه الحمد لله سبحانه على قضائه وقدره ، فهذا لا يستلزم عدم إبراز الأحاسيس والعواطف الإنسانية ، وعدم حصول التشوّق والعاطفة الصادقة التي هي وليدة الإنجذاب للنبي واهل بيته الطاهرين عليهم السلام حيث بكى عليه أمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرة الزكيَّة عليهما السلام، بل إن عدم إظهار ذلك الشوق لفقدان النبي أو فقدان أحدٍ من أهل بيته عليهم السلام يعتبر حالةً غير محمودة أصلاً بل هي جمود العين عن ذرف الدموع على فقد حبيب أو عزيز . . إن إظهار الشوق للمعصوم بالبكاء على فقده أو التحسر على فراقه والإبتعاد عنه  هو نوع من الفضيلة الزائدة على الصبر، لا أنّ هذا الإظهار ينافي الصبر؛ وهو ما دلت عليه الأخبار الشريفة  كما في صحيحة معاوية بن وهب : « كلّ الجزع والبكاء مكروهٌ ما خلا الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام » فإن الجزع المتفرع من البكاء على الإمام المعظم سيِّد الشهداء عليه السلام يعدُّ فضيلةً زائدة على الصبر، باعتبار أن البكاء عليه في بعض حيثياته نوعٌ من الشوق إليه والبخوع بين يديه الشريفتين... ويؤيده ما ورد في صحيح معاوية بن وهب المروي بعدّة طرق عن الإمام المعظم أبي عبد الله عليه السلام : « وارْحَمْ تلك الأَعيُن الّتي جَرَت دموعُها رحمةً لنا ، وارحَمْ تلك القلوبَ الّتي جَزعت واحترقت لنا،  وارْحَم الصرخةَ التي كانت لنا ».
  إن الجزع المذموم هو: نقيض الصبر بإظهار الاعتراض على قضائه وقدره..وأما الجزع الممدوح هو الإشفاق والانكسار على الطرف الآخر كالإنكسار على مصائب أهل البيت عليهم السلام فإنه ليس جزعاً محرماً بل ليس بجزع حقيقةً، باعتبار أنّه نوع من التشوّق الشديد لسيّد الشهداء عليه السلام ، كما أشرنا سابقاً في خبرٍ رواه الشيخ في أماليه بسنده عن عائشة ، قالت: لمّا مات إبراهيم بكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى جرت دموعه على لحيته ، فقيل : يا رسول الله تنهى عن البكاء وأنت تبكي ؟ ! فقال : « ليس هذا بكاء ، وإنّما هذه رحمة ، ومن لا يَرحم لا يُرحم » .
  (الوجه الخامس): مما جاء في اعتراضات البتريين لا ريب في أن البكاء على الإمام الحسين عليه السلام هو من أشرف أنواع البكاء حتى البكاء من خشية الله تعالى والخوف منه تعالى والبكاء لفقدان حبيب أو لشدة شوقه إلى عزيز غاب عنه الباكي، وذلك للأمور الآتية:
(الأمر الأول): إن الباكي لفقدان حبيب بموتٍ أو للشوق إليه بسبب غياب، ينشأ من البكاء للنفس وحظوظها، حتى الباكي من خشية الله تعالى، فإنه يبكي لخشيته على نفسه وخوفاً من ذنوبه التي ستدخله النار، وقد يحصل البكاء لتحصيل القربة من الله تعالى، بينما البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام لا يكون لأجل حظوظ النفس وإنما لأجل الغير، فإن الباكي على الغير يريد إظهار التفجع واللوعة على ما أصاب تلك الثلة الطاهرة من آل محمد عليهم السلام بسبب ما جناه عليهم أولئك الظالمون عليهم اللعنة الأبدية، كما أن بكاء الموالي على الأحباب من آل محمد عليهم السلام إنما يكون لأجل إعلان التضامن معهم والنصرة لمواقفهم البطولية المشرِّفة وإحياءً لذكرهم الطاهر....فأيهما أفضل أيها المؤمنون: البكاء على النفس أم البكاء على الغير ممن ضحى بحياته من أجل إحياء الدين ورفعة المؤمنين..؟! إحكم يا تاريخ...واحكموا أيها العقلاء...!.
 (الأمر الثاني): إن سائر أنحاء البكاء إنما هي بكاء مؤقت وسرعان ما يزول بزوال داعيه والأسباب الموجبة له، وغالباً ما يحصل للقليل من الناس، بينما البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام دائم وملازم لحياة الناس عموماً ولا يُنسى أو يُغفل عنه، وهو ما أكدته النصوص الشريفة التي بلغت حدَّ التواتر بمرات وهي بمجوعها كاشفة عن أن الإمام الحسين عليه السلام قتيل العَبْرَة - الدمعة - وأنه ما ذُكرَ عند مؤمن ومؤمنة إلا وبكيا وأن للإمام الحسين عليه السلام حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً، ما يعني دوام البكاء لأجله إلى يوم القيامة، وفي خبر عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:« بأبي قتيل كل عبرة ، قيل : وما قتيل كل عبرة يا بن رسول الله ؟ قال : لا يذكره مؤمن إلا بكى » .
 بل ورد أن إمامنا المعظم صاحب العصر والزمان عليه السلام يبكيه ليلاً ونهاراً وأن بكاءَه سيكون سبباً لموته بغصة الإكتئاب ولوعة المصاب وأنه روحي فداه سيكثر بكاؤه عند ظهوره الشريف وسيقيم المجالس في شرق الأرض وغربها لأجل البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام.
 (الأمر الثالث): إن البكاء على سيِّد الشهداء سلام الله عليه فيه الكثير من الخير والفضل العظيم، وذلك لأنه يتضمن الإيمان الصحيح بمعالم الإسلام والإيمان فروعاً وأُصولاً، ولولاه وآباؤه وأولاده وإخوانه وأخواته لما عُرف من الدين شيءٌ، وقد اجتمعت بالبكاء عليه وعلى أهل بيته الطاهرين عليهم السلام كلّ معاني الفضائل السامية التي نزلت لأجلها الكتب السماوية وبعث لأجلها الأنبياء والمرسلون من تولّي أولياء الله والتبري من أعدائهم ومناصرة الحقّ ومجاهدة الضلال والباطل والدفاع عن المظلومين والمستضعفين والأخذ بأيديهم إلى الرفعة والعزة والسمو بالفضائل والمكرمات والتوجه إلى الله تعالى والإنزواء عن الدنيا وجيفتها.... من هنا كان البكاء بشتى أصنافه - سواء أكان بكاء خشية أو فقد عزيز أو تشوقاً إلى الجنة أو تحرقاً على مصائب ساسة العباد وقادة العباد - سمة الأنبياء والأولياء والخاشعين والعارفين من عباد الله تعالى، إذ لا يبكي البكاء الهادف إلا ذوو النفوس الكبيرة والأبية.... فها هو النبي آدم عليه السلام قد بكى لطرد الله له من الجنَّة حتى خدَّ له على وجنتيه إخدودين من كثرة البكاء، وهكذا النبي يعقوب بكى على ولده النبي يوسف عليهما السلام وكذلك يوسف بكى على فراق أبيه يعقوب عليهما السلام كما أشرنا إليه سابقاً...وكذلك بكى الأنبياء والأولياء من خشية الله كثيراً ولم يعتبره أحد من علماء الخاصة والعامة مخالفاً للصبر والتسليم... وكذلك فقد بكى الإمامَ الحسين عليه السلام الأنبياء والمرسلون لمَّا أخبرهم الله تعالى بما سيجري على سيّد الشهداء عليه السلام وهو ما أفصحت عنه أخبارنا الشريفة كما هو مرسوم ومقرر في الكتب الحديثية المصدرية ككامل الزيارات والبحار وأمالي الصدوق والمفيد وغيرها من المصادر المعتبرة عند الإمامية... فهل يا ترى كان بكاؤهم مخالفاً للصبر والتسليم ...؟! كلا ثم كلا !!!.
 والمحصَّلة: نحن نسأل أولئك المشككين في البكاء على مصائب الأحباب عليهم السلام: هل تجمد عيونكم عن البكاء عند فقدان الأحباء كالآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأزواج والأولاد والجيران والأصدقاء أم أنكم تبكون حتى تبلَّ دموعكم الحصى... ولا إشكال فيه عندكم ؟! ولكن عندما تصل النوبة إلى آل محمد عليهم السلام تتغير مشاعركم وعواطفكم إلى كتلة حجرية لا تذرف منها دمعة وكأن آل محمد عليهم السلام أدنى بالدرجات - والعياذ بالله - من الأهل والأحباء بنظركم المنكوس وعقلكم المنحوس، وقد جاء عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله بقوله الشريف:« لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه ويكون عترتي أحبَّ إليه من عترته ويكون أهلي أحب إليه من أهله وتكون ذاتي أحب إليه من ذاته ».
 فمن بكى على أهله فإنما يبكي عليهم لفقدانه لهم وحرمانه من صحبتهم والتأدب معهم بآداب الله تعالى والتقرب منه، فبكاؤه عليهم بكاء فراق وشوق إلى من افتقدهم وغابوا عنه بالموت المحتوم، ولماذا لا يكون البكاء على الإمام سيّد الشهداء عليه السلام كالبكاء على الأهل والأحباء مع أن كلا البكائين من وادٍ واحد وتوجهٍ فارد ولا فصل في البَين أبداً...؟! بل إن البكاء على آل محمد عليهم السلام أوجب من البكاء على الأهل والأصحاب، وذلك لأن البكاء على الأهل والأصحاب إنما هو بكاء فيه جنبة دنيوية بخلاف البكاء على الأحباب من آل محمد عليهم السلام باعتباره بكاءً مقرباً من الله تعالى ومنهم سلام الله عليهم، باعتبارهم أساس الهداية والإيمان وبالتالي يكون البكاء عليهم من أوجب الحقوق على الشيعة العارفين بهم والمستغرقين بمعارفهم وذواتهم الطاهرة عليهم السلام لإحياء ذكرهم وإظهار ظلاماتهم، فضلاً عن تطهير النفس من أدران المعاصي وأوساخ الغفلة...
 إنْ قيل لنا: إننا لا نبكي على موتانا بل نصبر ونسلِّم لله ربّ العالمين فلا يرد علينا الإشكال المتقدم الذي أثرتموه أعلاه....
  والجواب: إذاً أنتم أشد جموداً من صمِّ الصخور والأحجار مع أن بعضها يتفجر منه الأنهار خشوعاً لله تعالى وهو نوع بكاء لها من خشية الله تعالى كما قال الله تعالى:« ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ » البقرة74؛ فعدم بكاؤكم على فقدان حبيب أو عزيز دلالة وافية على تحجركم وتسافلكم عن العواطف الإنسانية والمشاعر الآدمية فلستم بشراً...بل الصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان بل قلوبكم أشد قسوة من الحيوانات القاسية قال تعالى:« إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ »الأنفال22 ؛ فأنتم حينئذٍ أخس المخلوقات عند الله تعالى ولا ريب في أنكم من طينة بني أمية التي لم تذرف دمعة على مصاب أهل البيت عليهم السلام كما هو مضمون بعض الأخبار...بل الوارد في النصوص القطعية الصدور أن المؤمن هو من يبكى على سيّد الشهداء عليه السلام كما جاء فيها عن إمامنا الصادق عليه السلام قال: قال الحسين بن علي عليهما السلام:« أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا استعبر».
  والمراد من « العَبْرَة » هو الدمعة والحزن والبكاء، وقد فسر ابن منظور في لسان العرب مادة "عبر " معنى العبرة فقال:« وهي: الدمعة، وقيل أن يهمل الدمع ولا يسمع البكاء، وقيل: هي الدمعة قبل أن تفيض، وقيل: هي تردد البكاء في الصدر، وقيل: هي الحزن بغير بكاء، والصحيح الأول ومنه قوله: وإن شفائي عَبْرة لو سفحتُها...».
    لقد أجاد ابن منظور في تفسيره لمعنى« العبرة » التي هي الدمعة؛ ولا يبعد صحة المعنى الثاني وهو همل الدمع بحيث لا يسمع البكاء، ما يعني أن المؤمن تجري دمعته على سيِّد الشهداء عليه السلام بلا استئذان ومقدمات من الرثاء والنعي من القارئ بل بمجرد أن يُذكر اسم الإمام سيّد الشهداء عليه السلام تطفر الدمعة من عين المؤمن الصادق والموالي الوفي والمحب والعاشق.... وهو ما كشف عنه الخبر المتقدم، فإن منطوقه واضح في أن المؤمن هو من يستعبر بالبكاء والدمع والحزن الشديد على سيّد الشهداء عليه السلام، ومفهومه واضح بأن من لا يبكي ولا يحزن فهو غير مؤمن...وبصراحة نقول: من لا يبكي على سيّد الشهداء عليه السلام فهو منافق أو فيه بعض علامات النفاق فليبحث عن ذاته التائهة في الضلال متوكلاً على الله ومستهدياً بآل محمد عليهم السلام عساه يهتدي للحق والصواب... 
   (الاعتراض الخامس): ادَّعى البتريون الجدد؛ بأنّ التمادي في الشعائر الحسينيّة بشتى أصنافها من اللطم والتطبير والعجيج والضجيج والبكاء يسبب طغيانَ حالةٍ من الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر والتريّث والاقتباس من المُعطيات السامية لنهضته عليه الصلاة والسّلام، والحالة العاطفيّة ليست حالة عقلائيّة،  بل هي حالة هيجان واضطراب نفسيّ، وهذا خلاف ما هو الغاية والغرض من الشعائر الحسينيّة، حيث إنّ الغاية والغرض والهدف منها هو الإتّعاظ والاعتبار من المواقف النبيلة في نهضته عليه السلام ، والإقتباس من أنوار سيرته ، وليس حصول حالة هيجان عاطفيّ وحماسيّ فقط من دون تدبّر ورويّة.. وبالتالي سوف تطغى الحالة العاطفيّة على الحالة العقلائيّة، والحال أنّ المطلوب من الشعائر هو التذكير بالمعاني الدينيّة والمبادئ الدينيّة وأخذ العِبر والعظات التي ضحّى سيّد الشهداء عليه السلام من أجلها، وحالة البكاء والهيجان خلاف ذلك ، فبَدلَ استلهام الدروس و العِبر تستبدل بحالة عاطفيّة . 
    وبعبارة أخرى: أنّ التمادي في البكاء يسبّب طغيان حالة الانفعال والعاطفة على حالة التعقّل والتدبّر فالبكاء ليس فيه تفاعل إيجابيّ مع أغراض وغايات الشعائر الحسينيّة ، وأنّه نوع من إخلاء الشعائر الحسينيّة عن محتواها وتفريغها عن مضمونها .
فالبكاء صرف تأثّر عاطفيّ من دون إدراك مضامين النهضة الحسينيّة أو من دون إدراك أغراض وغايات وأهداف النهضة الحسينيّة (على صاحبها آلاف السلام والتحية).
الجواب من وجوهٍ هي الآتي:
 (الوجه الأول): الدعوى المتقدمة خالية من البرهان القائم على آيات الكتاب والأخبار الشريفة... بل هي دعوى مخالفة للكتاب والسنَّة المطهرة، وكل دعوى خالية من الدليل القرآني والنبوي والولوي فهي مجرد استحسان عقلي في مقابل الأدلة النقلية الدالة على أن حالة البكاء هي حالة عاطفية مسموح بها شرعاً؛ بل هي مستحبة في لسان الأدلة....كما أن الدعوى المخالفة للكتاب والسنة بدعة باعتبارها تشريعاً في مقابل الكتاب والسنة، يدخل صاحبها النار مهما علا شأنه الدنيوي وادعيت له المقامات الروحية المصطنعة....فإن صاحبها من أبرز مصاديق ما ورد في الصحيح من الكافي بإسناده عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه وعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه عليه السلام وعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ رَفَعَه عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام أَنَّه قَالَ:« إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَرَجُلَيْنِ رَجُلٌ وَكَلَه اللَّه إِلَى نَفْسِه فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ مَشْعُوفٌ بِكَلَامِ بِدْعَةٍ قَدْ لَهِجَ بِالصَّوْمِ والصَّلَاةِ فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِه ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ مَنْ كَانَ قَبْلَه مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِه فِي حَيَاتِه وبَعْدَ مَوْتِه حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِه رَهْنٌ بِخَطِيئَتِه ورَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً فِي جُهَّالِ النَّاسِ عَانٍ  بِأَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ قَدْ سَمَّاه أَشْبَاه النَّاسِ عَالِماً ولَمْ يَغْنَ  فِيه يَوْماً سَالِماً بَكَّرَ  فَاسْتَكْثَرَ مَا قَلَّ مِنْه خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ آجِنٍ واكْتَنَزَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ  جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِه وإِنْ خَالَفَ قَاضِياً سَبَقَه لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَه مَنْ يَأْتِي بَعْدَه كَفِعْلِه بِمَنْ كَانَ قَبْلَه وإِنْ نَزَلَتْ بِه إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ الْمُعْضِلَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً مِنْ رَأْيِه ثُمَّ قَطَعَ بِه فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ غَزْلِ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ لَا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْكَرَ ولَا يَرَى أَنَّ وَرَاءَ مَا بَلَغَ فِيه مَذْهَباً إِنْ قَاسَ شَيْئاً بِشَيْءٍ لَمْ يُكَذِّبْ نَظَرَه وإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْه أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِه لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِه لِكَيْلَا يُقَالَ لَه لَا يَعْلَمُ ثُمَّ جَسَرَ فَقَضَى فَهُوَ مِفْتَاحُ عَشَوَاتٍ  رَكَّابُ شُبُهَاتٍ خَبَّاطُ جَهَالاتٍ لَا يَعْتَذِرُ مِمَّا لَا يَعْلَمُ فَيَسْلَمَ ولَا يَعَضُّ فِي الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ فَيَغْنَمَ يَذْرِي الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ تَبْكِي مِنْه الْمَوَارِيثُ وتَصْرُخُ مِنْه الدِّمَاءُ يُسْتَحَلُّ بِقَضَائِه الْفَرْجُ الْحَرَامُ ويُحَرَّمُ بِقَضَائِه الْفَرْجُ الْحَلَالُ لَا مَلِيءٌ بِإِصْدَارِ مَا عَلَيْه وَرَدَ  ولَا هُوَ أَهْلٌ لِمَا مِنْه فَرَطَ مِنِ ادِّعَائِه عِلْمَ الْحَقِّ..».
   وحيث إن الدعاوى الخالية من البراهين العلمية على ضوء الكتاب والسنة تبقى مجرد دعاوى لا قيمة لها في سوق العلم والعلماء الحقيقيين ومباني الإستنباط الجعفري....
  (الوجه الثاني): ليس من المعقول أن تبدو في الإنسان ظاهرة عاطفيّة إنفعاليّة من دون أن تكون وليدة لإدراك معين، ولا ناشئة عن فهم معلومة ما، فلا انفكاك بين العاطفة وبين الإدراك الإنساني، فلا يخلو الإنسان من ازدواجية بين العواطف والإدراكات المعرفية وإلا لما صدق عليه مفهوم الإنسان المفطور على العاطفة سواءٌ أكانت سلبية أم إيجابية، فلا نكاد نطلق على إنسان بأنه إنسان آدمي كما خلقه الله تعالى على صورة أبي البشر آدم عليه السلام وهو خالٍ من العاطفة التي جبله الله تعالى عليها، " فالتفكيك بين الانفعال والتأثّر العاطفيّ من جهة ، وبين الإحساس والإدراك لأمر ما من جهة أخرى غير ممكن عقلاً ونقلاً وعرفاً، بل إن البكاء سواءً كان مجازاً  بحكم العقل أو النقل هو نوع من الإخبات للمعلومة الحقيقيّة ، وشدّة التأثّر بها ، وشدّة الإذعان والمتابعة لها، فلو أنّ الإنسان ذكر معلومة من المعلومات الحقيقيّة المؤلمة ولم يتأثّر بها ، فهذا يعني أنّه لم يشتدّ إذعانه لها، ولم يرتّب عليها آثار المعلومة الحقيقيّة، بخلاف ما لو تأثّرَ بها بأيّ نوع من التأثر ، فهذا يدلّ على شدّة إيقانه بتلك الحقيقة، ومن غير الممكن أن توجد ظاهرة البكاء في الجناح العمليّ في النفس وكفعل نفسانيّ من دون أن يكون هناك إدراك ما . . فكيف إذا كان إدراك الباكي بأنه محروم من ذروة التكامل مع المعصوم ، وشدةّ الحسرة على فقدان تلك الكمالات البشريّة الكامنة فيه عليه السلام . . ومن ثمّ شدّة التلهّف للاقتداء والانجذاب إلى ذلك الكمال والمَثَل الأعلى، فسوف يتأثّر الإنسان بشدّة وينفعل بدرجة عالية، هذا أدنى ما يُمكن أن يُتصوّر....
   وهذا التفاعل إنّما هو انجذاب النفس إلى الكمالات الموجودة المطويّة في شخصيّة المعصوم عليه السلام، وإنّما التأثّر به والقُرب منه يُعدّ من أسمى الفضائل النفسية، ويُعتبر نفرة عن الرذائل والنقائص والغلظة والقساوة؛ فالفضائل كلّها مجتمعة في الذات المطهّرة لسيّد الشهداء عليه السلام، والبراءة من أعدائه ومناوئيه تُعتبر نفرة من الرذائل والآثام المجتمعة في أعداء أهل البيت عليهم السلام . 
وهذه أقلّ حصيلة يمكن أن تتصوّر في البكاء حيث إنّ أدنى مرتبة من مراتب مجلس الرثاء والتعزية هي نفس هذا المقدار أيضاً وهو في الواقع أمر عظيم ينبغي عدم الاستهانة به حيث يولّد الإنجذاب نحو الفضائل ، والنفرة والارتداع عن الرذائل، وهل المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير هذا ؟ وهل الغاية من نشر الدين وتبليغ الرسالة إلا انتشال الفرد من مستنقع الرذائل والصعود به وإلى سموّ الفضائل والكمالات الإنسانية التي يجب أن يسمو بها المؤمن في سيره الدنيوي للعروج إلى سماء الروح والفضائل.
  هذا أدنى حصيلة عمليّة تنشأ من البكاء، فهو نوع من المجاوبة مع المعصوم والتفاعل معه لا الجمود والخمول والحياد؛ " فربّما يواجه الإنسان فضيلةً وفي الوقت نفسه تُعرض عليه رذيلة ، فيظلّ مرتاباً متردّداً، ومتربصاً في نفسه لا يحسم الموقف : ( وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) ، فيبقى يعيش فترة حياديّة مع نفسه ، لا هو ينجذب للفضائل ، ولا يتأثّر بالرذائل ، يعني تسيطر على نفسه حالة تربّص، وحالة التربّص هذه قد ذمّها القرآن الكريم ، وهي مرغوب عنها في علم الأخلاق وعلم السير والسلوك ، لأنّ نفس التوقف هو تسافل في الدركات، أمّا الإنجذاب نحو الفضائل فيُعتبر نوعاً من التفاعل السليم مع الفضائل، فالبكاء يعني التأثّر والانجذاب والإقرار والاذعان ، وبالتالي التبعية المطلقة، بخلاف ما لو لم يبكِ الإنسان ولم يتفاعل ، بل يكون موقفه التفرّج والحياديّة ، وشتّان ما بين الحالتين ! ".
  (الوجه الثالث): إنّ في البكاء على سيّد الشهداء عليه السلام يعدُّ نوعاً من التولّي له ولأهل بيته الطاهرين عليهم السلام والبغض لأعدائهم ، حيث إنّ البكاء عليه - بسبب ما أصابه وحلَّ بساحته المقدسة - يدلّ على الحبّ العميق والحميَّة له ، وهل التولّي إلاّ الحبّ؟ وهل الدين إلا الحب ؟ وهو ما أشارت إليه النصوص الكثيرة، منها ما ورد في الصحيح عن الإمام أبي جعفر عليه السلام فقال:« وهل الدين إلا الحب قال اللَّه تعالى « حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ  » وقال « إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ » أو لا ترى قول الله لمحمد صلى الله عليه وآله : « حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم » . وقال : " يحبون من هاجر إليهم " . فقال:  الدين هو الحب ، والحب هو الدين ؟ ».  وفي صحيحة ابن محبوب ، عن مالك بن عطية ، عن سعيد الأعرج عن الإمام أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : من أوثق عرى الايمان أن تحب في الله ، وتبغض في الله،  وتعطى في الله ، وتمنع في الله ».
    وهل هناك مصداق للحبّ لهم والبغض لأعدائهم أوضح وأصدق من البكاء على مصابهم الذي خشعت له السماوات والأرضون وأقشعرت لمصائبهم أظلة العرش ؟ وهل ثمة مصداق أوفى وأصدق من الحزن لحزنهم  والنفرة من أعدائهم الظالمين لهم والتابعين لهم في كلّ عصر ومِصْرٍ... ؟. كلا..كلا !.
  والمحصّلة: لو لم يكن للبكاء عليهم سلام الله عليهم إلا هذا القدر من الإخلاص والصدق والوفاء،  لكفى به حجَّةً على المشككين من النواصب والبتريين ، فهو نوع من الحميَّة لهم والغيرة على ذواتهم المقدّسة ومعالم ولايتهم المطهرة..كما أنه نوعٌ من المحافظة على جذور وأسس رُكنَي العقيدة المقدّسة الشريفة وهما: التولّي لأولياء الله سبحانه والتبرّي من أعدائهم . .
   ولا بدّ في البكاء من إعطاء حقّ جانب الإدراك المعرفي في حقيقته، كما لا بدَّ من إعطاء جانب العاطفة حقّها، فيعرف لماذا يبكي ؟ وما هي الغاية التي دعته للبكاء...؟ ، دون أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، كما يظهر من الروايات الصريحة في الدعوة إلى البكاء لأجل الشوق والتحرق القلبي لهم والتحزب إليهم والحميَّة لهم واستنهاض الهمم لنصرتهم ; كذلك هناك روايات للتدبّر والتأسيّ بأفعالهم عليهم السلام والاقتداء بسيرتهم نظير ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب وجهه إلى وكيله في البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها ، فمضى إليها، فقال عليه السلام :» أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ؛ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الأَلْوَانُ وتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، ومَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُه مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَه عَلَيْكَ عِلْمُه فَالْفِظْه، ومَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِه فَنَلْ مِنْه، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه، ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه، أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه، ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه،  أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ. . . ».
   النص المتقدم يتوافق مع مضامين متواترة من الآيات والروايات التي تدعو للإقتداء والتأسي بالإمام عليه السلام; ولا يتم الاقتداء والتأسّي به إلا بعد استخلاص العِبر وتحليلها والتدبّر فيها، ذلك  لأنّ البكاء بأيّ درجة كان وبأيّ شكل حصل - سواء في نثر أو شعر أو خطابة - لا يمكن فرضه إلا مع فرض تقارنه مع معلومة معيّنة ينطوي ضمنها، فهو يمتزج بنحو الإجمال مع تلك الحقائق الإدراكيّة، ولا يمكن فرض البكاء من دون حصول العِظة والعبرة ولو بنحو الإجمال، لأنّنا نفرض أنّ الحالة العاطفيّة هي دائماً معلولة لجانبٍ إدراكيّ معرفي في ذات كل إنسان بلا استثناء، ولا يخلو منه إلا الجفاة الغلاظ ممن تلوثت فطرتهم بالرذائل والمعاصي والظلم....فكانت النتيجة التكذيب الحتمي لمفهومي التولّي والتبري وما يلازمهما من مفاهيم عقائدية أُصولية وفرعية وهو ما كشف عنه الكتاب الكريم بقوله تعالى :«  ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوءَ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون » .الروم10.
  وأكثر المنكرين على طول خط الزمن هم من حملة العلوم الدينية، فمثلهم مثل الحمار يحمل أسفاراً لا يعرف قيمتها ولا يقدّر حملتها عن الأئمة الطاهرين عليهم السلام وشيعتهم من المحدثين والعلماء الربانيين، كما قال الله تعالى كاشفاً عنهم بقوله: « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » . الجمعة5.
   والواقع إن هؤلاء المشككين بالشعائر الحسينية المقدسة المتزيين بزي العلم ليسوا إلا كلاباً مستعرة على الأنبياء والأولياء عليهم السلام، تحت ستار العلم، فشككوا ـ ولا يزالون ـ بمعالم ولايتهم ومفاهيمهم التي أخذوها من عند الله تعالى، فأخبار الأئمة الأطهار عليهم السلام هي كلمات الله المترشحة من آل محمد الآيات العظمى لله تعالى، نصاً وإجماعاً، فإنكار أحاديثهم يعني إنكار حملتها وهم أهل البيت عليهم السلام ، فقال تعالى بحق جاحديهم وظالميهم من النواصب والبتريين:« وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » الأعراف176. 
   وهو مثل ضربه الله تعالى في القرآن الكريم ببلعم بن باعورا الذي كان معه الإسم الأعظم فأصابه العجب، فظن أنه أفضل من النبي موسى عليه السلام فصعد على جبل ليدعو على نبي الله موسى عليه السلام، فمسخه الله تعالى مسخاً جزئياً حيث أدلع لسانه فصار كلسان الكلب بسبب تطاوله على نبي الله موسى عليه السلام، وهكذا الحال بالمنتسبين إلى علوم آل محمد عليهم السلام ممن يتطاول على معارفهم ومقاماتهم ومنازلهم ومعارفهم وظلاماتهم فإن مصيره كمصير بلعم بن باعورا...ولولا كرامة النبي وآله لكنا رأينا المسخ ظاهراً على وجوه الكثير من العلماء المنحرفين في وقتنا الحاضر..ولكنَّ الستر عليهم لن يدوم طويلاً، لأن أخبار الظهور الشريف لمولانا الإمام الحجَّة القائم أرواحنا له الفداء أشارت إلى أن المسخ لن يفلت منه العلماء النواصب والبتريين قبل ظهوره المبارك...اللهم عجّل لوليّك الفرج والنصر على الأعداء بمحمدٍ وآله.... 
  (الاعتراض السادس) : وهو اعتراض وجهه الجهاديون من حزب الدعوة ـ كما يسمُّون أنفسهم ـ قالوا إن البكاء على مصائب سيّد الشهداء وآبائه وأبنائه وأخواته وإخوته الطاهرين عليهم السلام في الواقع يُستَخدم كسلاح ضدّ النفس الإنسانية، والحال أنّ ما يمتلكه الإنسان من طاقة مملوءة ومخزونة يجب أن يوجّهها ضد العدو أو يوظّفها في الإثارة نحو السلوك العمليّ والبرنامج التطبيقيّ،  بينما هذه الشحنة التي امتلأ بها واختزنت بها ذاته إذا فرّغها عن طريق البكاء ، فكأنّما وَجّه الصدمةَ إلى داخل أعماق نفسه بدل أن يستفيد من تلك الصدمة أو المصيبة أو البليّة أو المُدافعة . . كشُحنة مُختزَنة وطاقة مكبوتة يمكن أن يستفيد منها في المضيّ قُدماً نحو البرامج الهادفة ونحو السلوك العمليّ البنّاء . . فإذا أفرغها عن طريق البكاء ، فحينئذ يكون قد ضيّع تلك الشحنة ولم يستفد منها في سبيل تحقيق هدفه . . بل سوف تترك هذه الشحنة آثارها السلبيّة على نفسه، فإنّ شعور المظلوم المُفعَم بالعدوان عليه سوف يجد له طريقاً لتنفيسه بشكل سلبيّ ، وسوف تضيع هذه الطاقة الكامنة للانتصار للمظلوم ، وإعادة الحقّ إلى أهله، وقد تمسك هؤلاء بشواهد عديدة، منها : أنه لمّا أُصيبت قريش ونُكِبت في معركة بدر فإنّهم مَنعوا البكاء في مكّة ، وقالوا : يجب أن لا يبكي أحد ، وظلّت شحنة المصيبة مختزَنة حتّى وقعت الحرب الثانية ( معركة أحد ) ، حيث قاموا بتفريغ تلك الشحنة وتمّ لهم النصر ; هذا شاهد على جدوى تأخّر امتصاص الصدمة إلى وقت آخر . .
كما يمكن العثور على شواهد عديدة في تاريخ الأمم ، أنّهم إذا أُصيبوا بمصيبة أو بليّة أو فجيعة فإنّهم لا يفرّغون ذلك بتوسّط البكاء . . بل يُفرغوها عن طريق العمل المُبرمج والمدروس والهادف . .
وبعبارة مختصرة فأنّ البكاء سلاح ضد النفس والمفروض أن يكون سلاحاً ضدّ الأعداء ، وهو نوع من تفريغ سعرة الطاقة الكامنة في النفس . .
الجواب من وجوه هي الآتي :
  (الوجه الأول): قد تقدم منا خلال الإجابة على بعض الإعتراضات بأن مَن يفقد شيئاً يتشوّق إليه نظير قصة النبي يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام، فإن شوق أحدهما إلى الآخر زاد من بكائهما على الفراق، وكذلك بكاء النبي وأمير المؤمنين وسيِّدة نساء العالمين عليهم السلام على الإمام الحسين عليه السلام قبل شهادته لم يضعف من جهادهم للأعداء...ولا أحد يتصور أن بكاء أئمتنا الطاهرين عليهم السلام كان سيضعفهما عن منازلة الأعداء وجندلة الأبطال بسبب بكاؤهم على جدهم سيّد الشهداء عليه السلام...كما لا أحد يتصور بأن بكاء الإمام الحجَّة القائم أرواحنا له الفداء سيضعف من جهاده للأعداء عند ظهوره المبارك، بل إن بكاؤه سوف يزداد على جده الإمام الحسين عليه السلام ولن يضعفه عن منازلة الأعداء بسيفه البتار...
  بالإضافة إلى ذلك: إن البكاء فرع الإدراك المعرفي بالفرد المبكى عليه... فإذا بكى الفاقد لحبيبه يزداد حرصاً وطلباً وإرادةً للوصول إلى ذلك المحبوب المفقود ، لا أن تخفّ الطاقة المحرّكة نحو ذلك المفقود . .
   (الوجه الثاني): الدعوى بأن:« البكاء سلاحٌ ضدّ النفس »غير صحيحة على الإطلاق . . نعم من يبكي بداعي الاعتراض على أمر الله سبحانه ويجزع وييأس من روح الله ولا يسلّم بما يُكتب له في حياته ، فهذا نوع من الجَزع الممقوت، ونوع من القنوط واليأس من رحمة الله والانهيار الروحي والعقلي أمام النفس الأمَّارة بالسوء ، وهو خُلف الفرض الذي نفرضه في البكاء على الإمام الحسين عليه السلام، حيث إنّه نوع من الانجذاب والتشوّق للفضائل والكمالات، ليس فيه شيءٌ من اليأس والقنوط أو الحرمان أو التشاؤم .
  وقد جاء في الأخبار الشريفة ما يدل على بيان ترتّب الفضل والثواب على هذه ظاهرة البكاء على ميّت، وهي كثيرة نقل منها المحدّث الحر العاملي رحمه الله جملةً منها تحت عنوان :« باب استحباب تذكر المصاب مصيبة النبي ( صلى الله عليه وآله ) واستصغار مصيبة نفسه بالنسبة إليها»؛ وهي الآتي .
   الخبر الأول: بإسناده عن محمد بن يعقوب ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبي المغرا ، عن زيد الشحام ، عن عمرو بن سعيد بن هلال ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) - في حديث - قال : إذا أُصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فإن الخلق لم يصابوا بمثله قط .
 (الخبر الثاني): وعنهم ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن الحكم ، عن سليمان بن عمرو النخعي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : من أصيب بمصيبة فليذكر مصابه بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فإنه من أعظم المصائب .
  (الخبر الثالث): وعن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن زيد الشحام ، عن عمرو بن سعيد الثقفي ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ، قال: إن أصبت في مصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك فاذكر مصابك برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فإن الخلائق لم يصابوا بمثله قط .
(الخبر الثالث): وعنهم ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن سيف بن عميرة ، عن عمرو بن شمر ، عن عبد الله بن الوليد الجعفي ، عن رجل ، عن أبيه قال : لما أصيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) نعى الحسن إلى الحسين وهو بالمدائن ، فلما قرأ الكتاب قال : يا لها من مصيبة ما أعظمها ، مع أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : من أصيب منكم بمصيبة فليذكر مصابه بي فإنه لن يصاب بمصيبة أعظم منها ، وصدق ( صلى الله عليه وآله ) .
   تعليق مهم على الخبر الرابع: الظاهر أن الضمير في قوله عليه السلام« مصابه بي » راجع إلى الإمام الحسين عليه السلام وليس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أي: أن المصاب بموت ولده أو حبيب له فليتذكر ساعتئذٍ مصابَ سيّد الشهداء عليه السلام لأن مصيبته من أعظم المصائب في عالم التكوين، إذ لم يصب أحدٌ من الأنبياء والأولياء بمثل ما أُصيب به سيّد الشهداء عليه السلام في نفسه من تنكيل الأعداء به قبل شهادته المباركة، وبالرغم من شدة عطشه، فقد جندل الأعداء بشكلٍ مريع مع أخيه المغوار الهمام المولى أبي الفضل العباس عليهما السلام، فقد اجتمع عليهما زهاء ثلاثين ألفاً ما بين رامٍ بسهام وراضخ بالحجارة وطاعن برمح وضارب بسيف وراجل وراكب...وقد تصدى لكلِّ هذه الجموع بصدر رحب وقلب قوي أشد قوة من قلب الأسد مع ما هو عليه من ألم العطش والجوع والتعب والإنهاك والحزن والكرب والهم والغم...فقد أُصيب (روحي فداه) بنفسه وأولاده وإخوانه وحزنه على أخواته الطاهرات وعياله وبناته وبقية النسوة معهنَّ..فأية مصيبة أعظم من مصيبته ؟ وأية رزية أعظم من رزيته..؟ لا واللهِ لا توجد مصيبة أعظم من مصيبته ولا رزية أعظم من رزيته ولم يتحمل أحد ما تحمله من عظيم المحن والبلايا والتنكيل....! والتقييد الوارد في بقية الأخبار التي رواها الحر العاملي رحمه الله نظير أن مصيبة النبي محمد صلى الله عليه وآله من أعظم المصائب إنما هو تقييد إضافي ونسبي وليس تقييداً حقيقياً كاملاً، وذلك للنكتة العلمية التي أشرنا إليها، ويؤيده قول إمامنا المعظم أبي محمد الحسن المجتبى عليه السلام: « لا يوم كيومك يا أبا عبد الله ».
    والخلاصة: إن الروايات المتقدمة تؤكد للمؤمن بأنّك إذا أُصِبتَ بمصيبة عليك أن توظّف هذه الطاقة العاطفيّة في الإنجذاب إلى النبي وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام، فتنتشِل نفسك من الحسرة واللوعة، فالذي يصاب بمصاب ما ، ثمّ يعقد مجلساً لندبة مصاب سيّد الشهداء عليه السلام ويبكي يُثاب على ذلك، لأنّه قد نقل نفسه من حالة إنهياريّة يائسة إلى حالة مِلؤها الاستذكار لمصائب سيّد الشهداء وأهل بيته الأطهار عليهم السلام ، وملؤها الإنجذاب إلى الفضائل والنفرة من الرذائل . . بل يعتبر المستذكر لمصائب أولئك الأطهار ممن قد فنى عن ذاته ليذوب في ذواتِ من جعلهم الله تعالى أفضل خلقه لمقتضيات ذاتية فيهم، فيكون بذلك قد انتشل نفسه من مسارٍ خاطئ إلى مسارٍ صحيح . 
 وبما تقدم منا: نكون قد انتهينا من استعراض الإشكالات المتوجهة على ظاهرة البكاء على مصائب الأحباب من آل الله تعالى والإجابة عليها بشكلٍ تفصيلي، نسأل الله تعالى أن يجعل بحثنا المتقدم خالصاً لوجه الله تعالى وأن يكون ذخراً لي يوم فقري وفاقتي...راجياً من ساداتي وأئمتي عليهم السلام أن لا يتركوني في مواطن الوحشة...
أطوفُ ببابِكُم في كلّ حينٍ         كأنَّ ببابِكُم جُعِلَ الطوافُ
   نعتذر من فضيلة السائل المفضال عن تأخيرنا في الإجابة، والصفح عند كرام الناس مقبول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
 
حررها كلب آل محمد
محمد جميل حمود العاملي
بيروت بتاريخ 7 شوال 1436هجري

  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=1188
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 08 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28