• الموقع : مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث .
        • القسم الرئيسي : العقائد والتاريخ .
              • القسم الفرعي : شبهات وردود .
                    • الموضوع : حقيقة روح القدس عند آل محمد عليهم السلام وإشارات حكمية في رواية الطهوي المتعلقة بولادة إمامنا المعظَّم الحجة بن الحسن عليهما السلام .

حقيقة روح القدس عند آل محمد عليهم السلام وإشارات حكمية في رواية الطهوي المتعلقة بولادة إمامنا المعظَّم الحجة بن الحسن عليهما السلام

الإسم: *****
النص: بسم الله الرحمان الرحيم
إلى سماحة المرجع الديني الكبير خادم الشريعة السمحاء آية الله / الشيخ محمَّد جميل حمّود دام ظله العالي
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
في الرواية المروية عن الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن محمد بن عبد الله الطهوي في ذكر قصة ولادة إمام زماننا القائم \"عجل الله تعالى فرجه الشريف\" عندي فيها بعض الأسئلة أرجو من جلالتكم الإجابة عليها ولكم عظيم الشكر والامتنان .

أ- لماذا تحققت السيدة حكيمة من أمر حبل مولاتنا نرجس عليهما السلام بعدما ذكر لها الإمام العسكري صلوات الله عليه بأن ولادة إبنه الصاحب (عجل الله فرجه) منها مع علمها بأنها لم ترَ آثار الحمل عليها ؟
ب- هل نهي إمامنا العسكري عمته السيدة حكيمة عليهما السلام أن لا تعجب من أمر الله تعالى بعد أن فزعت من صوت المولى المعظم صلى الله عليه من بطن أمه عليها السلام يدلّ على أنها لم تكن عالمة بأن الأئمة عليهم السلام ينطقون حال صغرهم ، أو يمشون في سن السنتين كما أشارت الرواية الشريفة في موضع آخر ؟
ج- ما وجه الحكمة من مناولة الإمام العسكري صلوات الله عليه لسانه الشريف لولده الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عندما وُلد ليشرب منه ؟
د- ما هو روح القدس الذي يوفق ويسدّد ويربي الأئمة عليهم السلام ، وكيف ذلك ؟

نسألكم الدعاء مولاي الأستاذ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
 

 

 

الموضوع العقائدي: حقيقة روح القدس عند آل محمد عليهم السلام وإشارات حكمية في رواية الطهوي المتعلقة بولادة إمامنا المعظَّم الحجة بن الحسن عليهما السلام.

بسمه تبارك شأنه

 الجواب:
السلام عليكم ورحمته وبركاته
نتمنى لكم التوفيق والسداد والعافية والرشاد وقضاء الحاجات..وها نحن نعرض أسئلتكم ونجيب عليها تباعاً.

 

السؤال ألف: لماذا تحققت السيدة حكيمة من أمر حبل مولاتنا نرجس عليهما السلام بعدما ذكر لها الإمام العسكري صلوات الله عليه بأن ولادة إبنه الصاحب (عجل الله فرجه الشريف) منها مع علمها بأنها لم ترَ آثار الحمل عليها ؟

الجواب على السؤال ألف: إن تفحُّص أو تحقق مولاتنا السيدة حكيمة عليها السلام من حمل مولاتنا السيدة نرجس عليها السلام بعد علمها بحملها لا يستلزم شكها بقول الإمام المعظَّم الحسن العسكري عليه السلام، فالتحقق أعم من الإنكار أو الشك... بل لعلّ السر في تحقق مولاتنا السيدة حكيمة عليها السلام للإمام المعظّم الحسن العسكري عليه السلام عن حمل مولاتنا السيدة نرجس عليها السلام ـــ مع أن الإمام عليه السلام قد أخبرها بمولوده الحجة القائم أرواحنا ـــ هو زيادة الإطمئنان بقول الإمام المعظم العسكري عليه السلام على قاعدة قوله تعالى حاكياً عن خليله النبيّ إبراهيم عليه السلام مخاطباً ربّه العظيم( وإذ قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فُصرْهُنَّ إليك) البقرة260، فلم يكن نبيُّ الله إبراهيم الخليل عليه السلام شاكاً بقدرة الله تبارك شأنه على إحياء الموتى ولكنه كان طالباً لحقيقة الإحياء، ولو كان شاكاً بقدرة الله تعالى لما كان جاز جعله نبياً لعدم جواز أن يكون الأنبياء شاكين بقدرة الله تعالى المطلقة التي أبدعت خلق السماوات والأرض وخلقت الأشياء من العدم فلا يعجزها إعادة الموتى من جديد إلى الحياة... وهكذا بالنسبة لمولاتنا حكيمة عليها السلام فلم تكن شاكةً بعلم الغيب عند الإمام العسكري عليه السلام بل أرادت زيادة اليقين، ولربَّما كانت متفاجئة من قول إبن أخيها مولانا الإمام العسكري عليه السلام، وعادة ما تكون المفاجئة مباغتة للمخاطَب فتجعله كالمذعور من الخبر المفاجئ... أو لربّما  كانت متجاهلة للأمر لتري التاريخ بأن قدرة الله تعالى على حفظ الإمام القائم عليه السلام أعظم من أن يتصوره عقلُ بشر، وتفاجئها ليس غريباً في العقول فها هو نبيُّ الله موسى عليه السلام قد تفاجأ من العصا عندما تحولت إلى ثعبان فولّى هارباً ولم يعقِّب حتى ناداه الله تعالى بقوله (وألق عصال فلما رآها تهتز كأنها جان ولّى مدبراً ولم يعقّب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون) النمل 10. فإذا ما كان نبيٌّ عظيم لم يتمالك أمره وخاف من إنقلاب العصا ثعباناً فماذا نتوقع من غيره ممن هو دونه في المرتبة على أقل تقدير..؟! وربّما احتملت السيدة حكيمة عليها السلام أن السيدة نرجس عليها السلام كانت حاملاً فعلاً ولكن لا أثر للحمل عليها من دون أن تحتمل العنصر الإعجازي في عملية الحمل، فكان منها أن استغربت قوله عليه السلام فقامت تحقق في فحصها لعلّها ترى شيئاً من أثر الحمل الفعلي بفحص السيدة نرجس عليها السلام، ولعلَّ وجه استغرابها إنَّما كان بسبب إخفاء الحمل ظناً منها أن الحمل يمكن أن يظهر على السيدة نرجس عليها السلام فيراه الخواص من الشيعة لا عامة الشيعة أو يكون فيها شيءٌ من أثر الحمل الخفيف.
  والخلاصة: أن تحقق مولاتنا السيدة حكيمة عليها السلام من حمل مولاتنا السيدة نرجس عليها السلام نلخصه بالوجوه التالية:
الوجه الاول:
لزيادة اليقين والإطمئنان.
الوجه الثاني: لرفع التفاجئ والإستغراب.
الوجه الثالث: التجاهل لا الجهل ولا الشك بقول الإمام العسكري عليه السلام.

السؤال باء: هل نهي إمامنا العسكري عمته السيدة حكيمة عليهما السلام أن لا تعجب من أمر الله تعالى بعد أن فزعت من صوت المولى المعظم صلى الله عليه من بطن أمه عليها السلام يدلّ على أنها لم تكن عالمة بأن الأئمة عليهم السلام ينطقون حال صغرهم ، أو يمشون في سن السنتين كما أشارت الرواية الشريفة في موضع آخر ؟
 

 الجواب على السؤال باء: لا ملازمة بين تعجب مولاتنا السيدة حكيمة عليها السلام وبين أن تكون جاهلة بأن الأئمة الطاهرين عليهم السلام ينطقهم الله تعالى بالحكمة صغاراً أو يمشون في سنٍّ مبكرة، وليس ثمة ملازمة بين التعجب والإنكار، فلم يكن تعجبها تعجباً إستنكارياً بل كان تعجباً إستغرابياً مفاجئاً، وكيف تتعجب تعجب الإنكار وقد تقلبت كلَّ حياتها في مجتمع العصمة والطهارة، وقد أطرى عليها الإمام الهادي عليه السلام بالمباركة عندما أمرها بأن تبعث مولاتنا نرجس عليها السلام إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام بقوله الشريف( يا مباركة إن الله تبارك وتعالى أحبَّ أن يشركك في الأجر ويجعل لكِ في الخير نصيباً) بل الظاهر من الرواية أنها كانت فزعة مما سمعت، والفزع لا يدل على الجهل أو الإنكار بل دائماً ما يكون الفزع من عنصر المفاجأة ولا يقتصر عنصر المفاجأة على الناس العاديين بل يعم حتى الأنبياء كما أشرنا في جواب السؤال الأول بالنسبة إلى نبيّ الله موسى عليه السلام لمَّا ألقى العصا فانقلبت ثعباناً عظيماً فولَّى هارباً ولم يلتفت لورائه من شدة الفزع، وهو فزع هيبة وليس فزغ جبن...كما أن تعجبها له نظير في سيرة السيدة سارة زوجة النبي الكريم خليل الرّحمان عليهما السلام لمّا رزقها الله تعالى وليدها النبي إسحاق عليه السلام بعد إياس من الإنجاب باعتبارها عجوز عقيم، والعجوز العقيم يستحيل أن تنجب أطفالاً فمن هنا كان تعجبها واستغرابها من عظم القدرة الإلهية، وقد حكى الله تبارك شأنه عنها بقوله تعالى )وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، قالت يا ويلتي ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد( وهكذا فزع نبيّ الله إبراهيم الخليل عليه السلام لمَّا دخل عليه الملائكة  كماحكى الله تعالى عنه ذلك في القرلآن الكريم كما في سورة هود ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنّا أرسلنا إلى قوم لوط) فالفزع والتعجب أعم من الإنكار والجهل،وعلى فرض أن السيّدة حكيمة كانت جاهلة بغرائب أحوال الأئمة المطهرين عليهم السلام فلا ينقص هذا الجهل من شأنها إذ لعلَّها لم ترَ أو تسمع جنيناً يتكلم من بطن أمّه بل كان هذا الشيء جديداً عليها لأول مرة في حياتها الشريفة، ولكنَّ هذا الإفتراض الذي فرضناه إنّما هو نقضيٌّ لردّ الشبهة عنها صلوات الله عليها لجلالة أمرها عند الحجج الطاهرين عليهم السلام وإلا فإن الأصل يقتضي عدم جهلها لما اتصفت به هذه الكريمة عند الحجج المطهرين عليهم السلام من الخصيصة والحفاوة والقرب، كيف لا وهي مباركة كما سماها بهذا اللقب العظيم أخوها الإمام الهادي عليه السلام، فجهلها بكراماتهم وأحوالهم العظيمة خلاف البركة لأن البركة هي الطهارة وهو ما أفاضه الله تعالى على نبيّ الله عيسى عليه السلام حيث نقل عن نفسه الطاهرة بأنه مبارك حيثما حلَّ بقوله تعالى حاكياً عنه(وجعلني مباركاً أينما كنت) .  
     

السؤال جيم:ما وجه الحكمة من مناولة الإمام العسكري صلوات الله عليه لسانه الشريف لولده الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) عندما وُلد ليشرب منه ؟
  

الجواب على السؤال جيم: وجه الحكمة في مناولة الإمام العسكري عليه السلام لسانه الشريف لولده الإمام المعظم الحجة القائم عليه السلام بعد ولادته ليشرب منه اللبن الإعجازي أو العسل أو شراب الجنة للدلالة على أنهم ليسوا كبقية الناس يحتاجون الشراب والطعام المادي الدنيوي بل هم أرقى من ذلك فهم أفراد متميزون بالمعرفة والطاعة لله تعالى وهم سفراء وحجج منصوبون للتبليغ الإلهي من قبل الله تعالى، والمنصوب من قبله تعالى مسدد بالكرامات والمعاجز، فطعامهم وشرابهم ليس كطعامنا وشرابنا..مع التأكيد على أن الشارب والمشروب منه رجلان عظيمان عند الله تعالى، فهذه كرامة لهما حتى يقوى إيمان الشيعة بهما كحجج منصوبين من قبل الله تعالى.
  

السؤال دال:ما هو روح القدس الذي يوفق ويسدّد ويربي الأئمة عليهم السلام ، وكيف ذلك؟. 
 

الجواب على السؤال دال: ذكرنا حقيقة روح القدس في كتابنا الجليل " شبهة إلقاء المعصوم نفسه في التهلكة ودحضها" الجزء الأول صفحة 512 ـــ 525 في البحث حول الملك الذي ينزل على إمام الزمان عليه السلام في ليلة القدر ولا بأس بأن ننقله بكامله من كتابنا المتقدم الذكر لما في الإعادة من إفادة، وإليكموه كاملاً:
  ماهيّة روح القدس: 
  من خلال تصفّحنا للقرآن الكريم نجد أنّ الآيات التي تناولت ذكر الروح هي على أربع طوائف: 
  الطائفة الأولى:

وقد ورد فيها ذكر الروح من دون إضافة شيء آخر إليه نظير قوله تعالى: (ولا تيأسوا من روح الله إنّه لاييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون) (يوسف/87) . 
  وقوله تعالى:(إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه) (النساء/171) . 
  (فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي) ( الحجر/29 ) .
  (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين) ( الأنبياء / 91 ) .
  (ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه) ( السّجدة/9) .
  الطّائفة الثانية: 
  وقد ورد فيها ذكر الرّوح مضافاً إلى القدس، منها: 
  (وآتينا عيسى بن مريم البيّنات وايّدناه بروح القدس) (البقرة/87) .
  (وأيّدناه بروح القدس) ( البقرة/253 ) .
  (وإذ ايّدتك بروح القدس) ( المائدة/110) .
  (قل نزّله روح القدس من ربّك بالحقّ ليثبّت الذين آمنوا) (النحل/ 102) 
  الطّائفة الثالثة: 

  وقد ورد فيها ذكر الروح مضافاً إلى جبرائيل بقوله تعالى: (نزل به الرّوح الامين على قلبك لتكون من المنذِرين) ( الشّعراء/193) . 
  الطّائفة الرابعة: 

  وفيها ذكر الروح مضافاً إلى أمر الله تعالى، منها قوله تعالى:( ينـزل الملائكة بالرّوح من أمره على من يشاء من عباده) ( النّحل/2 ) .
(قل الروح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً) (الإسراء/85)، )يلقي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده لينذر يوم التّلاق) ( غافر/15)،( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) (الشّورى /52). 
  ولا يخفى على اللّبيب بأنّ الرّوح هو شيء صادر أو منبثق من الذّات الإلهيّة سواء أكان أمراً روحيّاً محضاً أم شيئاً ملكوتيّاً مجرّداً، فهو على كلا المعنيين يُعتبر من مخلوقات الله جلّ شأنه لكنّ ماهيّته وحقيقته مجهولة لدى عامّة النّاس، وإنْ كان يصحّ انطباق اللفظ على كِلاَ المعنيين إلاّ إذا جاءت قرينة لفظيّة وصرفت اللّفظ إلى أحد المعنيين .
  كما لا يصحّ أيضاً حصر الرّوح الوارد ذكره في الطّوائف المتقدّمة بالملك لا سيّما الآيات الواردة في الطّائفة الأولى حيث دلّت صريحاً على أنّ الله سبحانه وتعالى نفخ في آدم من روحه (ونفخت فيه من روحي) ثمّ  أمر الملائكة بالسّجود له (فقعوا له ساجدين) إذ الإتيان بضمير الفاعل في قوله (ونفخت) يدلّ بالدّلالة المطابقيّة بانّ النافخ هو الله تعالى تسبيباً أو بواسطة الملاك إسرافيل عليه السلام، وإنْ كان نفخ الله تعالى يختلف عن نفخ الملك إسرافيل، وقد جاء في الأخبار " إنّ الله خلق روحاً ونفخ في آدم منها". 
  ولا شكّ ايضاً أنّ الأنبياء والأولياء عليهم السلام قد أيّدهم المولى عزّ وجلّ بالرّوح الأمين وبالأمر الإلهي، ولكنّ إفرادَ الرّوح في سورة القدر بعد ذكر الملائكة إنّما كان لوجود مزية وخصيصة مهمّة لدى الرّوح دون الملائكة، إذ عطف الرّوح على الملائكة دليل المغايرة في الذّات والصّفة وإلاّ لعُدَّ العطف في هذا الموقع بالخصوص عبثاً يتنـزّه عنه كلام الحكيم عزّ وجلّ.
  والروح وإنْ كانت تُطلق على القوّة الرّوحيّة أو القدسيّة تمنح صاحبها علماً يكون جزءاً من كيانه، وشأناً من شؤونه لكن لا يمنع حملها على الملاك  ــــ سواء أكان هذا الملاك هو جبرائيل أم غيره من خلق الله تعالى ـــ تمييزاً له عن بقيّة الملائكة، كما يمكن حملها على الإفاضة القدسيّة تهبط بقوّة على المعصوم عليه السلام في ليلة القدر، وما ورد من أنّ الرّوح الوارد في سورة القدر وسورة النّبأ في الآية 38 (يوم يقوم الرّوح والملائكة صفّاً) يراد به الموجود المادّي الأعظم من جبرائيل وميكائيل عليهما السّلام حسبما جاء في بعض الأخبار في أصول الكافي ج1ص273، يمكن أيضاً حمله على الموجود الغيبي الملكوتي بقرينة ما جاء في صحيحة أبي بصير قال: سألت الإمام الصّادق عليه السلام عن قوله تعالى: )ويسألونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي) قال: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله وهو مع الائمّة وهو من الملكوت، وإنْ كان الأظهر صحّة  حمل " الملك " على المخلوق الغيبي الملكوتي جمعاً بين الأخبار المتعارضة بحسب الظّاهر، وعليه فإنّ الملك هو عبارة عن الامر الملكوتي وليس ملكاً من الملائكة المشهورين وإلاّ لما مُيِّزَ  به النبيُّ والعِتْرَةُ الطّاهرة عليهم السَّلام، إذ التمايز إنّما يكون في الموجود الغيبي لا المادّي حيث يشترك النبيُّ وبقيّة الانبياء به . 
  وأمّا الرّوح القدس الّذي تكرّر ذكره في آيات عدّة حيث يُستفاد منها أنّ لروح القدس عدّة معانٍ، ففي إحدى آيات القرآن الكريم (قل نزّله روح القدس من ربّك بالحقّ)  (النّحل/102) يحمل بحسب الظّاهر على جبرائيل الّذين كان ينـزل بالقرآن على النّبي الأعظم صلى الله عليه وآله من قِبَل الله تعالى، وبحسب الباطن القرآني أنّ الّذي نزّل القرآن إنّما هو حقيقة النور المحمّدي من حيث قوّة يقينه بربّه وتمسّكه بعروته .
  ولا يعني هذا الحمل إلغاء الخصوصيّة الأخرى التي تحملها الآيات المتعلّقة بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام، فالتعبير بـ (إذ أيدتك بروح القدس) أو (وأيدناه بروح القدس) يدلّ على أنّه " الرّوح " التي كانت ترافق المسيح عليه السلام وتؤيّده وتسدّده وهذه الرّوح هي التي كانت مع الرّسل والأنبياء والمعصومين عليهم السَّلام دائماً ، وكانوا يحصلون على الإمداد الغيبي من خلالها في مختلف الحالات، بل قد يتحلّى بـها المؤمن التقي في بعض الأحيان، من هنا قال الإمام الباقر عليه السلام لكميت بن زيد الأسدي : " والله يا كميت لو كان عندنا مال لأعطيناك منه ولكن لك ما قال رسول الله لحسّان بن ثابت: لن(*) يزال معك روح القدس ما ذبيت عنّا ".وورد في رواية أخرى أنّ مولانا الإمام علي بن موسى الرّضا عليهما السَّلام بكى كثيراً عندما أنشده الشّاعر دعبل الخزاعي بعض أبيات قصيدته المعروفة  بـ " مدارس آيات " ثمّ قال له: " نطق روح القدس على لسانك بـهذين البيتين".
  وعليه يتّضح معنا أنّ " روح القدس " جوهرٌ ملكوتي يعين الإنسان اثناء آدائه للأعمال المعنويّة الإلهيّة، وبطبيعة الحال فإنّها متفاوتة بتفاوت مراتب الاشخاص، فهي لدى الأنبياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام فعّالة وتعمل بشكل استثنائي وأكثر وضوحاً، ولدى الآخرين تكون وفقاً لقابليّاتهم وإنْ كنّا نفتقد للعلم بماهيّتها وتفاصيلها.
   وبالجملة فإنّ لكلمة " الرّوح " تقسيمات متقابلة بين الإطلاق والتقييد حسبما أوردناه آنفاً في الآيات الدّالة على ذكر الرّوح، وهي على أنحاء ثلاثة:
(1) ـ
الرّوح الإنساني .

(2) ـ الرّوح الملكي المادّي .
(3) ـ الرّوح الملكوتي .

(4) ـ الرّوح القدسيّة .  
 

فالنحو الأوّل يشهد له قوله تعالى: (ونفخت فيه من روحي) (ونفخ فيه من روحه).
 

والنّحو الثّاني كقوله تعالى:(فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً)

والنحو الثّالث كقوله تعالى:(وأيدناه بروح منه)، وقوله تعالى:(أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه)

والنحو الرّابع كقوله تعالى:( وأيّدناه بروح القدس). 
 

  والرّوح المذكورة في النّحو الثّالث أشرف وأعلى مرتبة واقوى أثراً من الرّوح الإنسانيّة العامّة . 
  وأمّا النحو الثّاني فهو وإنْ كان مختلفاً عن الأنحاء الثّلاثة الأخرى اختلافاً صنفيّاً أو فرديّاً إلاّ أنّ الإختلاف الحاصل ببين الثّالث والرّابع إنّما هو على أساس المراتب التّشكيكيّة والمتفاوتة لحقيقة الرّوح عند الانبياء والأولياء فيما بينهم من جهة، وعند المؤمنين المؤيَّدين بالرّوح من جهة أخرى، من حيث تجلّياتها ومظاهرها، فهي حقيقة واحدة والفارق في الشدّة والضّعف، فالّذي يتمتّع به نبيّنا وعترته الطّ‍اهرة هو أكمل مراتب الرّوح القدسيّة، وقد دلّ القرآن الكريم على هذه الحقيقة بقوله تعالى:( تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض) (البقرة/253)، وقوله: (ولقد فضّلنا بعض النّبيين على بعض) ( الإسراء/55) .
  كما وقد أشارت النّصوص إلى تناقص روح الإيمان عند صدور المعصية من المؤمن، وهي توضّح لنا كيف أنّ الحقيقة الواحدة تقوى وتضعف، ومثلها الملكات عند النّاس، فليست مَلَكَة التّقوى أو العدالة أو الإجتهاد أو الجود أو الشّجاعة وهكذا بقيّة الملكات النّفسانيّة بمرتبةٍ واحدةٍ عند الجميع، بل هي متفاوتة عندهم شدّةً وضعفاً،مع كون الحقيقة التي يتحلّى بـها الجميع واحدة . 
  والسّر في تناقص روح الإيمان حال صدور المعصية، يرجع في الواقع إلى عدم انسجام المعصية مع الرّوح الإيمانيّة التي كان يتحلّى بـها المؤمن، وتبدّل الصّورة العلميّة لديه من الطاعة والعبوديّة إلى النّزول عند نزوات نفسه ورغباتها. 
  ويشهد لهذه الحقيقة قوله تعالى: (أوَمَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارجٍ منها) (الأنعام/122) حيث إنّ الله تعالى يخصّ المؤمن بالإيمان في مقابل الكفر وآثاره، والإيمان هو النور الّذي يسري في أفعال العبد، فيرى به الخير، ويبعده عن الشّر، ويميّز به النّفع من الضّر .   
  والدّليل على أنّ هذا النّور لغاية الإبصار قوله تعالى:( الّذين إذا مسّهم طائف من الشّيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون) (الأعراف/200) .  
  وهذا النّور الّذي هو نور الإبصار والإدراك من خواص الحياة، كما أنّ نور الإدراك الحسّي والخيالي في الإنسان وسائر أنواع الحيوان، لا يتحقّق إلاّ بعد تحقّق الحياة .
  وهذه الحياة التي أثبتها الله تعالى للمؤمن حياة خاصّة، زائدة على الحياة العامّة التي يشترك فيها المؤمن والكافر، فللمؤمن حياتان، وللكافر حياة واحدة، ومن هنا يمكن للمتدبّر أن يذعن بوجود روحٍ آخر للمؤمن وراء الرّوح الّذي يشترك فيه المؤمن والكافر، فإنّ خاصّة الحياة إنّما يترشّح من الرّوح، واختلاف الخواص يؤدّي إلى اختلاف المبادي . 
 وهذا هو الّذي يظهر من مثل قوله تعالى: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيّدهم بروح منه) (المجادلة /22) . 
  وهو الّذي تدلّ عليه موثّقة ابن بكير قال: 
  قلت لأبي جعفر عليه السلام في قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم: إذا زنى الرّجل فارقه روح الإيمان؟، قال": هو قوله (وأيّدهم بروح منه)، ـ ذاك الّذي يفارقه".إنتهى.
  أقول: ليست هذه الرّوح من الملائكة، فإنّ الله أينما ذكر الرّوح عدّه غير الملائكة كقوله (ينـزّل الملائكة بالرّوح من أمره) وقوله:(يوم يقوم الرّوح والملائكة صفّاً) وقوله:(تنـزل الملائكة والرّوح فيها...) إلى غير ذلك، فهذه الرّوح غير الملائكة الدّاعية إلى الخير، كما أنـها غير الرّوح المشترك بين المؤمن والكافر، نعم يمكن أن يُقال: إنّ هذه الرّوح ليست مغايرة للرّوح الإنساني بالعدد، بل إنّما هي مغايرة لها بحسب المرتبة دون العدد . 
  وعليه فإنّ روح القدس هي عبارة عن قوّة نفسانيّة يتحلّى بـها المعصوم عليه السلام، وهي حالة أرقى من حالة الإيمان، لذا كان الفرق واضحاً بينهما من حيث وجود قرينة "القدس" الملتحمة بـ " الرّوح "، للتّدليل على الخصوصيّة التي يتميّز بـها المعصوم عن غيره من أهل التّقى المؤيَّدين بالرّوح" (وأيّدهم بروح منه) . 
  فأهل اليقين يمتلكون روحاً يلهمهم الخيرات، إلاّ إنّه أضعف درجة من روح القدس الّذي يصاحب أصحاب الولاية الإلهيّة، فهو قوّة قدسيّة فيهم، كواحدٍ من قواهم، تمنحهم العلم والفهم، وتعصمهم من الضّلال في العلم والعمل والسّلوك .
  وهذا ما نجد شواهده في الاخبار المتضافرة، حيث ورد التعبير في بعضها " وإنّه لفينا " أو " جعل في الأنبياء خمسة أرواح " أو " إنّه خلقٌ من خلق الله له بصر وقوّة وتأييد " فكلّها تشير إلى حقيقة واحدة وهي روح القدس.
من هذه النّصوص ما ورد:
(1) ـ في خبر ابي حمزة الثّمالي قال: 
  سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرّجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه؟. .. قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ:(وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا   الإيمان).
ثمّ قال: أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية؟ أيُقرُّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان؟ فقلت: لا أدري ـ جعلتُ فداك ـ ما يقولون .
فقال [ لي ]: بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان، حتى بعث الله تعالى الرّوح التي ذكر في الكتاب، فلمّا أوحاها إليه علم بـها العِلم والفهم، وهي الرّوح التي يعطيها الله تعالى من يشاء، فإذا أعطاها عبداً علّمه الفهم .
  وتشير دلالة الحديث على أنّه لولا الفضل الإلهي لما أمكن رسول الله من أن يعرف ما هو الإيمان والكتاب، إذ بفضله أقدره على ذلك وإلَّا لما كان قادراً على معرفة الكتاب والإيمان . 
  ويُقصَد بالكتاب: التّفاصيل الشّرعيّة أو كناية عن الفهم والعلم، وبالإيمان: تلك القوّة القدسيّة التي حباها الله تعالى لمن القى السَّمع وهو شهيد .
(2) ـ صحيحة  إبراهيم بن عمر قال: قلت لأببي عبد الله عليه السلام:
أخبرني عن العلم الّذي تعلمونه، أهو شيء تعلمونه من أفواه الرّجال بعضكم من بعض، أو شيء مكتوب عندكم من رسول الله؟ فقال: الأمر أعظم من ذلك، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ في كتابه: ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا  الإيمان) ؟ قال: قلت: بلى . قال: فلمّا أعطاه الله تلك الروح علم بـها، وكذلك هي إذا انتهت إلى عبد علم بـها العلم والفهم، يعرّض بنفسه عليه السلام .
(3) ـ صحيحة أبي بصير قال: 
 سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: (يسألونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي)؟ قال: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله وهو مع الأئمّة وهو من الملكوت.
  ونظيرها صحيحة الكناني عن أبي بصير أيضاً، وكذا حسنة أبي أيّوب الخزّاز.
وجميعها يشير إلى حقيقة واحدة مهمّة، وهي أنّ الرّوح من عالم الملكوت، وهذه الرّوح ليست من صنف الملائكة بل هي قوّة قدسيّة إلهيّة ينـزّلها الله عزّ وجلّ على من يشاء من عباده المصطفين الأخيار، وبتعبير آخر:
 الرّوح نور إلهي صرف مجرّد عن العلائق الماديّة ومتعلّق بالنّفوس البشريّة إذا صفت وتخلّصت عن الكدورات كلّها، واتّصفت بالقوّة القدسيّة المذكورة تعلّقاً تاماً يوجب إشراقها وتسديدها، وانطباع العلوم الكلّية والجزئيّة فيها، وبهذا يتمّ تفسير إنزال الرّوح في ليلة القدر، وليس المراد من الرّوح كونه ملكاً مميّزاً عن بقيّة الملائكة بزيادة المعارف لديه حسبما صوّره جمهور المفسّرين، حيث لم يثبت بدليلٍ قطعيٍّ بأنّ أحداً من الملائكة أعظم من جبرائيل وميكائيل عليهما السَّلام في العلوم حتى يمكن نسبة زيادة المعرفة إلى غيرهما من الملائكة، مضافاً إلى عدم وجود آية أو خبر يدلاّن على علم الملائكة بجميع الأشياء بل أنـهم أقروا بعجزهم وجهلهم أمام آدم عليه السلام (لا علم لنا إلاّ ما علَّمتنا) .
  ـ وعليه فالملائكة غير الرّوح، من هنا جاء الخطاب القرآني مفصِّلاً هذه الحقيقة بالقول: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) فقد أوحى سبحانه إلى رسوله قوّة الإيمان قبل نزول جبرائيل عليه قبل البعثة.
وبتعبير آخر: 
إنّك يا رسولي محمّد: ما كنت تعلم قبل إنزال الرّوح ما الكتاب وأيّ شيء هو ولا التّصديق بالشّرائع وأحكامها ودعوى الخلق إليها، وإنْ كنت تعلم أصول الإيمان بطريق عقلي، والمقصود: 
  إنّ علمك بذلك من فيض الله وجوده بإنزال الرّوح إليك، وكذا قوله تعالى:
(أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عمّا يشركون ينـزل الملائكة بالرّوح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتّقون )(النحل/1ـ2) فالملائكة تنـزل بقوّة الرّوح الإلهي على من يشاء من عباده، لأنّ ذلك لا يوهَبُ لكلّ أحد، بل يعطي لمن  له أهليّة هذا التّسديد، وهذه هي القوّة الخاصّة الموهوبة من عند علاّم الغيوب، لذا جاء في الخبر: 
  إنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يسأله عن الرّوح، أليس هو جبرائيل؟
فقال له أمير المؤمنينعليه السلام: جبرائيل من الملائكة، والرّوح غير جبرائيل، فكرّر ذلك على الرّجل، فقال له: لقد قلت عظيماً من القول، ما أحد يزعم أنّ الرّوح غير جبرائيل، فقال له أمير المؤمنينعليه السلام: إنّك ضالّ تروي عن أهل الضّلال، يقول الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلَّم (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عمّا يشركون ينـزّل الملائكة بالرّوح) والرّوح غير الملائكة صلوات الله عليهم .إنتهى.
  والرّوح المذكور في هذا الخبر هو نفسه الرّوح الوارد في قوله تعالى:( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان).
  وبما تقدّم يتضح أن الروح يختلف بطبيعته عن الملائكة، فهو قوة لاهوتية جبروتية لا مساس للمادة فيها على الإطلاق، وهذا الروح هو خاص برسول الله وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام ويحتمل شموله لبعض المرسلين من الأنبياء ببعض مراتبه لا بجميع مصاديقه المخصوص بها آل الله من سادة الورى ومصابيح الدجى عليهم السلام،وفي هذا الزمان هو مولانا الإمام المعظَّم القائم من آل محمد صلوات الله عليه وآبائه الطاهرين عليهم السلام، والحمد لله ربّ العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل والسلام عليكم ورحمته وبركاته.
 

عبد الحجة القائم أرواحنا فداه محمد جميل حمود العاملي ــ بيروت بتاريخ 1 شعبان 1433هـــ.

 

 


  • المصدر : http://www.aletra.org/subject.php?id=436
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 06 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28